الأمومة هي العاطفة الأكثر عمقاً في المرأة. إنها الحبّ الذي لا يعرف حدوداً.. «رانيا» (30 عاماً)، عندما قررت أن تنجب تخيّلت أنها ستحمل بين ذراعيها أجمل طفل في الدنيا. حلمت بولدٍ فائق الذكاء، وأعدّت الخطط لأيامٍ آتية رائعة ومميزة. ولدت ابنها «سيف»، الذي بلغ سنته التاسعة. الوقت يمرّ سريعاً، والحياة ممتلئة بـ«المطبات». إنها تعمل لساعات طويلة، وتحاول أن تكون أماً مثالية. لكن «ليس كل ما يشتهيه المرء يدركه»؛ فها هو طفلها يكبر بنعمٍ كثيرة، لكنها أقل من توقعاتها؛ فهي تريده الأوّل في الصف، وهو ليس الأول، وتقارن كل خطوة يقوم بها بخطوات آخرين؛ ما يجعله عدائياً، وقلقاً، ومتوتراً.. فهل هي أمّ فاشلة، أمْ بالغت في توقعاتها، أمْ لم تراعِِ ما يريده طفلها، وخططت لما أرادته هي؟.. وماذا يقول علم نفس الطفل والإرشاد والتوجيه العائلي عن حالتها؟
لم تتوقع «رانيا»، يوماً، أن تطلب استشارة طبيب نفسي لتوجيهها إلى سبل تربية طفلها «سيف»؛ فهي أمٌّ متعلمة لكنها تقليدية، فقد طبقت ما تربّت عليه في تربية طفلها، من دون أن تنتبه إلى أن الجيل الجديد مختلف، وتربيته يفترض بها أن تكون مختلفة أيضاً، وأكثر حداثة. أخصائية علم نفس الأطفال والإرشاد والتوجيه العائلي، رهام منذر، ديناميكية في هذا المجال؛ فهي لا تترك فرصة إلا وتوجه - من خلالها - نصائحها إلى الأهالي بشأن تربية أطفالهم.. فماذا لديها من معلومات قد تفيد «رانيا»، ومن هم - وهنَّ - مثلها؟
فلنتكلم بصيغة «نون النسوة»، عن الأمهات بالتحديد، مع التأكيد على أن الأب والأم عليهما أن يتشاركا التربية معاً. تبدو رهام منذر متحمسة جداً لبثّ الأفكار المثلى، التي من شأنها توجيه الأمهات حول تربية أطفالهنَّ، مؤكدة أولاً على «الوقت النوعي»، الذي يفترض به أن يجمع الطرفين (الأم وطفلها): «فلتستمتع الأم بهذا الوقت كما يستمتع الطفل، وبالتالي هو ليس فرضاً ملقى عليها. فيجب عليها أن تبدأه بفرح، وتنهيه بفرح، مع تأكيدها لطفلها أنه سيتجدد قريباً، وسيجلسان، وسيلعبان، وسيتكلمان، وسيغنيان. ويجب ألا تبدأ الأم (الوقت النوعي) مع طفلها بقولها: لدينا عشر دقائق نقضيها معاً؛ إذ يجب أن تترك طفلها يفرح بوجودها معه. وإذا كانت مضطرة إلى إنجاز أمر آخر؛ فلتقل له مثلاً: أريد أن أنجز طعام العشاء؛ فهل ستساعدني؟».. هنا، في هذا الإطار تلفت أخصائية علم نفس الأطفال إلى ضرورة ألا تخلط الأم بين «الوقت النوعي»، و«الوقت اللوجستي» الذي تمنحه لطفلها. فأوقات الطعام والاستحمام والدرس، التي تقضيها معه ليست «نوعية»؛ فـ«الوقت النوعي» هو الذي تصغي فيه إلى مشاعره، ويضحكان معاً.
خطورة المقارنة
هل يجوز أن تقارن الأم ولدها بأطفال آخرين؟ وهل تشعر بالارتباك؛ إذا لم يتصرف كما خططت، ولم يكن نسخة طبق الأصل من أحلامها؟
تجيب أخصائية علم نفس الأطفال: «لا بُدّ أن يكون قد تذكر كثيرون، الآن، ما قيل لهم وهم صغار: شقيقك أنهى طبق طعامه قبلك، تمثّل به، وابن خالتك تميّز وهو يؤدي دوراً مسرحياً على خشبة المدرسة تعلّم منه، وعلامات ابن عمتك المدرسية عالية؛ وعليك أن تكون أفضل منه. هكذا يكبر الطفل مع الشعور بوجوب أن يكون هو الأفضل بين أقرانه، وهذا خطأ كبير يقترفه أهله بحقّه. والسؤال: هل تشجيع الأهل أطفالهم على التشبه بالآخرين (المميزين) ناتج عن الحرص على مصلحة الصغار، أم عن عقدة نقص لدى الأهالي؟».
وتؤكد: «هناك أمهات يفعلن ذلك؛ لأن أهلهن كانوا يطلبون منهن أن يصبحن الأفضل، وهنّ يحاولن تعويض ما فشلن في تحقيقه من خلال حثّ أطفالهن على التميّز. وهناك أمهات تميزن بالفعل، ويعملن على الحفاظ على المستوى الذي بلغنه من خلال أطفالهن. إن تعزيز التوقعات العالية لدى الطفل يزيد لديه الخوف الدائم من الفشل؛ فيكبر قلقاً، وهذا أمر غير صحي أبداً؛ إذ إنه يزيد الضغط على الطفل، كما أن المقارنة خطيرة، وتأثيرها غالباً يكون سلبياً على سلوك الطفل».
وتضيف أخصائية علم نفس الأطفال: «مقارنة الطفل الدائمة مع أطفال آخرين ليست حافزاً له، بل مدمرة؛ فالمقارنة السليمة تكون مع نفسه. بمعنى أن تقول له والدته: تحسنت كثيراً، خلال شهرين في مادة الرياضيات، وتطورت في العزف على الغيتار بطريقة رائعة. فلتحرص الوالدة على تعزيز هوية طفلها الشخصية بدل مقارنته، كما فعل أهلها سابقاً بآخرين».
اختلاف الأجيال
وتوضح رهام منذر: «التربية علم لا غريزة، ولا توجد أم تملك تقنيات التعامل الحديثة مع طفلها بالفطرة. قديماً، كان الضرب أداة التأديب، ولاحقاً ظنّت أمهاتٌ أن القصاص له وقع أفضل من الضرب. لكن ثبُت، أيضاً، أنه ليس البديل المثالي في التربية الحديثة. فلتستشر الأم في أصول التعامل مع طفلها، بدل أن تطبق عليه ما تربّت هي عليه، ولتتذكر أن لكل طفل طريقة تفكير مختلفة، فأسس التربية السليمة قد تكون واحدة، لكن ردة فعل كل طفل عليها قد تختلف؛ لهذا يجب أخذ كل حالة على حدة».
وتبين: «يتحدثون عن تربية قديمة وأخرى حديثة (مودرن) تعتمد اليوم.. نعم؛ فالأجيال تتطور، وقد كان الأهل قديماً يعتمدون القصاص، وكان الطفل - بما معناه - يُجبر على احترام الكبار، وتعتمد معه التقنية نفسها التي تربى عليها أهله. أما اليوم، فالاحترام يكون من الجانبين، وبات الأهل يصغون أكثر إلى احتياجات الطفل، ومشاعره، وهواجسه، وهذا ليس تساهلاً بل حكمة؛ فلم يعد الطفل (عجينة لينة) نشكلها كما نشاء، بل أصبح لزاماً علينا الإصغاء إلى ما يريده هو، مع وضع ضوابط يحترمها الجميع من دون سحق رأي الطفل بحجة أننا نربيه».