اسمها راشيل قليلات، وتُوقع أعمالها باسم «Rachel k».. إنها فنانة لبنانية، مصممة دمى، أبت - يوم كبرت - أن ترمي الألعاب الملونة، وابتكرت بها مجسمات فريدة من نوعها، تحمل قصصاً، وتروي مغامرات، وتعكس نوستالجيا وحنيناً. نعم، إنه الحنين الخفي إلى الماضي، إنه الدهشة اللامتناهية في قطع فنية مفعمة بالألوان، مجبولة بالماضي، ولا تُشبه سواها.
هناك، داخل كل واحد منا - اعترف أم لا - حنين إلى الماضي، إلى يومٍ كان فيه صفحة بيضاء، يجلس على السجادة، ويملأ الباحة بألعابٍ مبعثرة في كل مكان. ويومها كان صوت والدته يطارده في كل مكان: «وضّب ألعابك».. صوتٌ كلما تذكر رنينه ابتسم، وألعابٌ كلما تذكرها عاد يتمنى ويبتسم ويطمح ويتخيل.. إنه الخيال القادر على أن يأخذ كلَّ واحد منا إلى أي مكان.
راشيل قليلات، التي ولدت في لبنان، وعاشت في فرنسا، وكبُرت تحلم، والدتها كانت تحب الفنّ، وتقضي معها أوقاتاً كثيرة، تعلّمها تقنيات الرسم، وتعطيها عجينة طيّعة، وتطلب منها أن تصنع منها مجسمات. هكذا انطلقت، وهكذا كبرت.. ويوماً بعد يوم، أصبحت تجمع ألعابها، وألعاب أولاد الجيران وتحتفظ بها، ولا تعرف لماذا، وماذا ستفعل بها، وكيف ستستفيد منها؟! هو مجرد الحنين إلى الاحتفاظ بالدمى، والألعاب والمجسمات الصغيرة، وتصنع بها - في مخيلتها - رسومات حرّة. وأدركت، يوم كبرت، أنها كانت تبحث عن الخيال، مقتنعة بأن المعرفة تكون محدودة، أما الخيال فتطوف به العالم. أنشأت قرية للسنافر على جذع شجرة قريبة من منزلها، وأصبحت تقضي وقتاً جميلاً فيها.. إنه شغفها.. إنه مخيلتها.. إنه إحساسها، ومشاعرها، وحنينها.
لكلِّ لعبة حكاية
كبرت، وتزوجت، وانتقلت من بيت أهلها، تاركة أطناناً من الألعاب (الحراتيق)، التي أبت أن تتنازل عنها. تقول: «ذات يوم استيقظت عند الصباح فجأة، وقررت أن أصنع منها كلِّها قطعاً فنية. كيف؟ لم أكن أدرك شيئاً، إلا أنها تستحق أن تكون في بيتي كقطع فنية حاضرة، دائماً، أمام بصري». حدث ذلك عام 2017، انتقلت إلى دبي ودخلت ردهات متاحف وغاليريات كبرى، وأدركت أنها تمتلك مخزوناً ثرياً من «الحراتيق»، التي تستحق أن تصبح منحوتات. صنعت أول لوحة منها؛ فوجدت إقبالاً رائعاً عليها، وبدأ الزبائن يتقاطرون. ويومها نالت لقب «أفضل فنانة فردية دولية» في «world art Dubai 2017». سافرت إلى ولاية ميامي الأميركية، وأخذت معها كثيراً من الدمى والألعاب، واشتغلت عليها. وفي النهاية، عادت إلى لبنان، وقررت أن تنشئ «rebirth of Beirut».
لم تقرر أن تصبح فنانة، بل أصبحت بالفطرة.. أصبح شغفها ابتكار قطع بأي مواد ملهمة مستعملة تجدها. أرادت إعادة تدوير جميع القطع الجميلة الملونة، وصناعة ما يُشبه التحف بها، وسرها شغفها ومخيلتها. أما قرارها «أن يشعر أي شخص ينظر إلى فنها بالسحر والجاذبية اللذين تشعر هي بهما»، فسببه أنها كانت تنظر إلى قطعها، وتشعر بالارتياح والبهجة، والناس يستحقون مقدار السعادة والارتياح والبهجة نفسه.
جميل أن تبقى الذكريات حيّة؛ فلكل لعبة حكاية ومناسبة، ولكل مناسبة هناك نوستالجيا وحنين. وتتذكر: «أول لوحة صنعتها مما أملك من دمى كانت عام 2015، وهي معلقة اليوم في منزلي، وهي بقياس 120/90، وعملت منحوتة على نسق كلب، احتفظت أيضاً بها». وتضيف: «أستخدم في عملي المعجون الورقي، أخلط أوراق الصحف بالغراء، أتركها تجف، وأعيد صياغتها بالألوان، وأزرع فيها الألعاب؛ لتصبح مادة مختلفة لا مثيل لها».
ألوان السعادة
هكذا عبّرت راشيل قليلات عن شغفها، الذي أصبح فناً رائعاً، فقد عشقت الألوان، ورفضت أن ترى الكون باللونين الأسود والأبيض فقط. وكثّفت استخدام الألوان السعيدة، القادرة على تغيير المزاج من الكآبة إلى السعادة، مع العلم بأن لونها المفضل هو الأسود.. تقول: «ألبس الأسود كثيراً، وأعلم أنني إذا مزجت جميع الألوان الفرحة السعيدة؛ فسيطغى عليها اللون الأسود، الذي هو مزيج كل الألوان معاً. أحبه لأنه غامض، وكل إحساس غامض، وحدس مفاجئ، ينبئان بأن شيئاً قد انتهى وانكسر، ولا بُدّ أن يقوم على أنقاضه شيء آخر».
كلما زاد الغموض؛ زادت المتعة، ومتعة راشيل قليلات كانت في أن تسرح بمخيلتها. ومن طبيعة الخيال الجيد أنه يسكن في الغموض، وفي اللون الأسود غموض وقوة وسلطة، فهو لغة الإبداع والمبدعين، فقد أعطت الألعاب والدمى حياة، والناظر كثيراً من التفاؤل، وأدخلت في بعض مجسماتها محركات، تجعلها غير جامدة، ومليئة بالحياة، ما حاز كثيراً من الإعجاب، وردود الفعل الرائعة.
تحتاج راشيل إلى أن تكون القطعة التي تعمل عليها بقياس لا يقل عن أربعين سنتيمتراً؛ لتتمكن من تطويعها لتكون قطعة فنية مبتكرة جميلة.. تقول: «القطعة الصغيرة تحتاج إلى عمل دقيق، وتأخذ الكثير من الوقت والجهد، اللذين يضاهيان غالباً القطع الكبيرة، إذ أؤسس اللوحة، وأعمل على التفاصيل». تدهن، عادةً، خلفية القطعة باللون الأسود، الذي يمنح الحياة للألعاب التي تزرعها فيها، و«ميكي ماوس» موجود غالباً في لوحاتها، إنها تحبه كثيراً.
حنين إلى الطفولة
لا تعرف راشيل قليلات حينما تبدأ في إعداد قطعة ما الذي ستنتهي إليه، فهي تضع أحياناً مئات الألعاب في مجسم واحد، وتكون سعيدة جداً حينما ترى ألعابها في كل مكان؛ فكثير منها من مجموعتها الخاصة، وقد يستغرق إنجاز العمل أشهراً، وتأبى أن تحدد موعداً نهائياً لإنجاز ما بدأته؛ لأن ما تفعله ابتكار، والقدرة على الابتكار موهبة أودعها الله في كل عقل، وكل ما على المبتكر فعله هو أن يبدأ.
من يتأمل بلوحات راشيل قليلات يبتسم، وهي تثق بمقولة: «كل شيء يحدث لسبب ما»؛ فهي تشعر بطاقة رائعة كلما رأت الدمى التي كانت شبه مرمية أصبحت مجسمات فنية، وتحلّق كما الفراشات؛ كلما رأت العيون تبتسم؛ لمجرد أن يرى أناس، ظنوا أنهم فقدوا ذكرياتهم في الصغر، يستعيدون تلك الذكريات في لوحة تضم ألعاباً من كل الأحجام، والقياسات، كانت لديهم في يوم ما.
هو الحنين إلى الطفولة.. الحنين إلى الجمال من خلال الذكريات، وكنوز الأطفال. شاركت راشيل في معارض عالمية عدة، وهي التي دمجت الحركة الآلية في قطعها، داعية الناس، كل الناس، إلى دخول عالم من الأحلام، فهذه وليمتها البصرية السعيدة إلى العموم.
تحب راشيل الحيوانات الأليفة، وسعادتها تستمدها من الطبيعة، وهدفها القابع في قلبها هو إنقاذ الطبيعة والأرض، من خلال إعادة تدوير ما استفدنا منه ذات يوم، واعتبرناه قد أصبح «فاقد الصلاحية».
نتركها تلعب مع طفلها «إيزاك» (4 سنوات)؛ فلعبه اليوم لوحاتها ومجسماتها غداً، ومعه تعود طفلة، ومع مجسماتها تحافظ على ألق الطفولة الدائم في عمرٍ، أجمل ما فيه هو الطفولة في جميع فصول الحياة.