مستلهماً روحانياته، دخل الفنان والمصمم، ماجد اليوسف، عالم الحرف العربي؛ فأبدع فيه بطريقة تبرز جمالياته وسلاسته؛ ليشكل فضاء عكس فيه إنجازات تؤكد قدرة الوعي العربي على تحقيق اختراقات تشكيلية في منظومة الإبداع والتميز العالمي. نجح اليوسف في إضافة أسلوبه الخاص - مع لمسة تجريدية ومعاصرة - إلى الممارسة التقليدية لهذا الفن القديم، وهو اليوم يسافر - كفنان متعدد المنصات - إلى مناطق مختلفة من الكوكب؛ لنشر ثقافة الخط العربي، وما وراء قِيَمه الجمالية.. في هذا الحوار، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، كشف لنا اليوسف جوانب ثرية من تجربته مع الخط العربي:
ما أهم ملامح مشروعك الفني؟
أهتم كثيراً بإظهار جماليات الخط العربي الكلاسيكي بأسلوب حديث وتجريبي. أنا متخصص في كتابة خط الثلث الجلي، ومن خلال ممارستي اكتشفت الكثير من التفاصيل الجميلة والغنية، التي يحويها هذا الخط، والتي لا تظهر بوضوح إلا لمن يمارس الخط، ويتمرن عليه لفترات طويلة، وانطلقت من هنا في محاولة لإظهار هذه التفاصيل والأشكال في أعمال فنية، تعيد دراسة الشكل التقليدي للتراكيب الخطية، وكذلك تأخذ الحروف والأشكال الخطية إلى مكان جديد في تراكيب تجريدية، تشبه الأعمال التكعيبية والمستقبلية في الفن الحديث.
من أين يأتي شغفك بالخط والكتابة؟
من الثراء البصري الذي تمتاز به الحروف العربية؛ فالتعامل مع الخط يعد تحدياً واكتشافاً لجماليات كامنة في أشكال متعددة، يعمل الخطاط على سبر أغوارها، وتوصيلها إلى المشاهد.
تجربة بشرية
هل تعتقد في روحانية الحرف العربي؟ وكيف تتعاطى مع التراث والحداثة من خلال منجزك الإبداعي؟
أعتقد أن العقل البشري يملك خصوصية فطرية في ما يتعلق بتمييز الجمال وتقديره، فينتج عنه التأثر العاطفي بالصور والأشكال الجميلة التي تثير هذه الحاسة، وكل مكوناتها من خطوط وألوان وأصوات. وهذه التجربة هي ما يمكن أن نطلق عليه اسم «روحانية» كمصطلح أدبي. التجربة البشرية مستمرة ومتواصلة؛ لذلك يصعب تحديد منطقة التحول من التراث إلى الحداثة بخط فاصل؛ فالفن بشكل عام يعبر عن محيطه الثقافي والفكري، وهذه المميزات الأساسية للعمل، الذي يمكن أن نسميه «تراثياً» في وقتنا، وأحياناً يعكس الفكر الشخصي أو الحالة الخاصة للفنان، وقد تختلط هذه العوامل؛ فأرى عملاً قديماً ربما من مئات السنين، لكنه يملك روحاً حديثة، ويمكن أن يعرض مثلاً في أي صالة فنية، ويصعب على من يشاهده تحديد زمنه الذي جاء منه.
ما الذي يقدمه الخط، ولا يقدمه أسلوب الطباعة؟
الخط كان الوسيلة المتوفرة لتدوين ونسخ الكتب والوثائق، وهذه الصفة الوظيفية تحولت لاحقاً إلى الطباعة. لكن الخط فيه الروح الفنية والخصوصية؛ كونه عملاً يدوياً مباشراً؛ لذلك لا توجد أعمال خطية متشابهة، حتى لو كتب الخطاط نفسه العبارة نفسها؛ ففي فكل مرة تكون النتيجة مختلفة، وهذه الخصوصية تعطي الخط قيمة كبيرة بعيدة عن العمل الوظيفي الذي تقوم به الطباعة. الخط، أيضاً، كممارسة هو تحدٍّ لقدرات الخطاط، وتدريب لتوافق عمل العين واليد، واكتساب لمهارة راقية ودقيقة، مثل: الموسيقى، وصناعة المجوهرات، وما شابه.
فن العمارة
من أين تستوحي مواضيع أعمالك؟
لا يوجد مصدر محدد؛ فكل ما حولي تقريباً يمكن أن يكون مصدر فكرة لعمل معين. أحياناً، النص يكون هو الإلهام، ففكرة معينة في قصيدة أو حكمة وربما كلمة واحدة لها شكل معين عند كتابتها، قد تثير الخطاط لتجربة بناء عمل كامل حولها، وهكذا. ومن الأعمال التقليدية، التي يكتبها الخطاطون مثلاً، نصوص مبنية حول حرف الواو، وهو حرف واحد، لكنه مثير جداً للخطاطين، ودائماً نراه يتكرر في أعمال قديمة وحديثة. في عملي، أيضاً، خاصة الأعمال التجريدية الحديثة، أستوحي بعض التكوينات من أعمال معمارية وتصاميم، قد لا تكون لها علاقة مباشرة بالخط. والعمارة - بشكل عام - أراها مصدراً كبيراً للفن البصري.
أما عن المواضيع، التي تحتويها أعمالي، وطريقة تقديمها؛ فهي بشكل عام تُبرز مفاهيم، مثل: السعادة، والفرح، من خلال استخدام الألوان والخطوط، التي تُشعر المشاهد بالراحة، وأحياناً تكون مرتبطة بمشاعر مستوحاة من قصة معينة، أو بيت من الشعر. هنا، أعود إلى الإلهام البصري من فن العمارة؛ فاللوحة - بالنسبة لي - يمكن أن تبث شعوراً مشابهاً لذلك الذي يشعر به الشخص؛ عندما يكون في مكان معين، يتأثر فيه بتفاصيل التصميم المعماري الخاص بذلك المكان من المساحة، والإضاءة، وارتفاع السقف، وغيرها من الخبرات، التي نشعر بها عند وجودنا في أي مكان، وتأثير ذلك الشعور في الحالة النفسية للشخص.
هل تعتقد أنك ساهمت في إطلاق فن الخط العربي عالمياً، وعلى أي أساس ارتكزت في ذلك؟
الأعمال التي عرضت حول العالم، وعبر قنوات الإعلام والتواصل الاجتماعي، كلها تؤيد هذه الفكرة، خاصة احتفال يوم اللغة العربية في مدينة نيويورك، والجدارية الموجودة في مبنى الأمم المتحدة بجنيف. كان من أهم أهدافي - منذ أن بدأت ممارسة الخط - توصيل هذه الخبرة الجمالية إلى كل من يشاهدها؛ لذلك كان تركيزي على اكتشاف وإتقان أشكال الحروف بشكل دقيق، وإعادة إخراجها بقوالب فنية وتراكيب جديدة، تتواصل بصرياً مع من يراها حتى لو لم يفهم اللغة العربية، وحتى دون أن يكون هناك نص محدد ومكتوب لقراءته؛ ما يعني أنه مجرد إحساس بجمال الأشكال والألوان وتناغمها، وهذا - بدَوْره - يجذب المشاهد، ويجعله في أحيان كثيرة مهتماً أكثر بمعرفة هذه اللغة، والثقافة التي جاء منها هذا العمل الفني.
هل ساهمت حركة النقد الفني في تطور إبداعات الخط العربي؟
لاتزال تعاني؛ لعدم وضوح المجال نفسه وطبيعته في المنطقة العربية، مع أن هناك تجارب نقدية وأكاديمية متميزة، قام بها الكثيرون من الأساتذة والباحثين العرب، لكنها في دول أخرى، مثل: تركيا، وإيران، ودول غربية. أعتقد أن هناك فجوة بين المحيط العربي المهتم بالفنون، وطريقة فهمه وتقبله للخط العربي؛ لذلك نحن بحاجة إلى توعية ودراسة الموضوع بشكل أكبر، وعلى مستويات عدة؛ للوصول إلى مراحل أكثر نضجاً.