يأتي ذلك الشعور من عبق مجهول، متلمساً ذاكرة وجدانية عميقة في الحس الطفولي المكتشف لعالم الرسائل، أتساءل متأملة الفيض النوراني لسماء ذاكرتي: متى كتبتُ الرسالة الأولى؟
كانت رسائلي إلى أبي البذرة الأولى ليقظة الروح الكتابية، كانت الكتابة سهلة وعفوية حينها؛ لأنها - بكل بساطة - تخرج من قلب طفلة لم تتجاوز الثمانية أعوام، ومعظم الرسائل غرضها طلبيٌّ.. طلب الطفلة شيئاً تتمنى حصوله، أو نزهة تود الذهاب إليها بصحبة إخوتها. كنتُ كاتب البيت، والمحرر الرسمي لإخوتي، وكنا حينما ننتهي من صياغة الرسالة نختار ساعي البريد، وعلى الأغلب يتم الاتفاق على أحد إخوتنا الصغار المدللين عند أبي. وكان مصير تلك الرسائل - بعد أن تصل إلى يد الأب - هو الطيّ، طيّة طيّة، ويضعها في جيبه مجاورة لنظارة القراءة، ونحن خلف الباب نراقب أمنياتنا وهي تُطوى في جيب التأجيل، وبانتظار الحظ. قد تتراكم الرسائل عبر الزمن، وقد تتحقق الأحلام، وقد تُنسى، وقد تُمزَّق فَوْرَ استلامها.. حسب مزاج أبي رحمه الله، ومدى ملاءمة توقيت الاستلام مع الظرف المحيط به، من تفرّغ وراحة أو ضيق من ضغوط العمل.
في سورٍ بعيد منزوٍ بالبلدة، هناك ثغرة أشبه بكُهيف صغير يحوي وديعة من المراسلات الوجدانية وأشرطة الكاسيت، تبادل أصحابها شِعراً أقرب إلى العشق الصوفي، في تاريخ شحّت فيه احتمالات التلاقي، ونَدُرت فيه فرص انعتاق القلوب وتعانقها؛ رغم جذوة البراءة والنور في تلك السنوات.
كان ثغر الرسائل ذاك في بيت سهليّ، تأهب في الثمانينات للتمدن والتحضّر والارتفاع.. تحرّكت العائلة في البيت ورحلت، وتحرّك سور البيت في المطر والرّيح والمستنقعات وترهّل، ولم تتحرّك الرسائل منذ تموضعها تحت حجر صغير .. مرّت سنوات من العمر ، ولم نمشِ نحو سور العدم.. تُرى هل ذابت الرسائل في الطوب؟.. هل علم حدس المُرْسَلَة إليه بمكانها؟.. هل يئس المُرسِل، وعاد إلى تجميعها من ثغر السور؟.. أيزال السور مؤتمناً عليها؟.. هل هناك مُكتشفون آخرون غيرنا لأمر الرسائل؟.. هل قرؤوها؟.. وحاك أحدهم من وحيه رسائل جديدة في الحُب؟.. أو ربما ألهمته فيضَ أفكار روايته الأولى؟