كلّ مرة كانت تزورنا فيها جدتي في طفولتي؛ كنت أبكي عند رحيلها.. أتوسلها ألا تغادر.. ألجأ إلى الحيلة؛ فأخفي حذاءها؛ كي لا تتمكن من الرحيل في صحوي، أو أثناء نومي.. وعندما أخبروني - يوم موتها - بأنها رحلت لم أصدقهم، لم أجد حذاءها حيث خبأته! بكيت وأنا أتهم نفسي بأنني سبب رحيلها!.. آهٍ لو أنني فقط كنت أجدت إخفاء الحذاء!
كانت غصة حلقي الأولى، التي علمتني كيف يمكن أن يسير المرء منا، وهو يحمل بين ضلوعه رفاتاً ومقبرة!
وعندما سألتنا معلمة الفصل، ذات يوم: ماذا نريد أن نكون عندما نكبر؟.. لم أتردد وأنا أرفع يدي بالجواب: «أريد أن أكون كعكة!».
انفجرت ضحكات زملائي حولي.. فشرحتُ السبب (كي يحبني الجميع، ولا يرحل عني أحد!).. لم تضحك معلمتي، بل دمعت عيناها، كأنها شعرت بما خلف كلماتي، اقتربت وربتت على رأسي، وهي تهديني درسي الثاني «لا ضمان!.. قد يلومونك وقتها؛ لأنك بالفانيللا وهم يحبون الشيكولا.. قد يلومونك؛ لأن سكرية المذاق لا تناسب أذواقهم، بل إن بعضهم قد يكتفي بأن يخزك بسكينه، أو يمزقك بشوكته دون أن يمنح نفسه فرصة التذوق، ثم يهتف - بسماجة - بأنه ببساطة لا يحب الكعك!».
وفي كل يوم كنت أكبر، ويكبر خوفي معي، أحمل على ظهري أوزار كل من اختار الرحيل عني، أو مضى رغماً عنه! أعاتب (ثوب الحب)، الذي نسجته لهم.. هل كان أقصر مما ينبغي؟!.. أو ربما كان أطول؟! أتهم مفرش مائدة فردتها لهم بطول عمري كله.. هل كان فاتحاً أكثر مما ينبغي؟!.. أو ربما كان أغمق؟!.. وفي كل مرة كنت أجيد إسباغ عباءة الذنب على صورة مرآتي وحدي!
والآن؟! وبعد كل هذا العمر.. أجدني أبتسم كلما فتشت خزائن القلب؛ فأجدها خالية من أحدهم.. صرت أفهم «فقه الرحيل»!
بعضهم سيرحل وإن أخفيت الحذاء، وإن صرت ألذَّ كعكة! سيرحل وإن طرزت له أغلى ثياب الحب، وإن كان مفرش مائدتي هو الأكثر رونقاً، سيرحل وإن صرت (إسفنجة) تمتص أوجاعه، وإن شكلت (صلصال) قلبي على شكله المفضل!.. آن الأوان لأريح قبضتي التي جعدت ظهور قمصانهم!
بعضهم رحيله نعمة، استراحة محارب بعد معركة طويلة لم تكن له فيها ناقة ولا جمل، بعضهم رحيله درس، يمهد الطريق، ويزيل عنه أحجاره كي يهيئه لمن سيسير فيه بعده، بعضهم رحيله صحوة، تزيح عن القلب غشاوته، وتمنحه جواب سؤال لطالما أحرقه: «هل كان حقاً يستحق؟!». بعضهم رحيله خيبة، لكن كيف يحلو طعم النهار لمن لم يذق مرارة العتمة؟!.. وبعضهم رحيله صفعة، تجعل المرء يفيق؛ ليفهم أنه مجرد راكب قطار، سيغادر متى أدرك محطته!
لهذا ما عدت ألوم صورة مرآتي، بل أبتسم لكل من أراهم جواري فيها، وأعذر من اختفى منها، لم أعد امرأة تريد أن تكون كعكة، كفاني أنني أبذر الحب في ساحاتي دون كلل، فهنيئاً لطير طاب له قمحي فبقي.. ووداعاً لمن حلق بجناحَيْه ورحل!