تستبدل الأرض ثوب الطقس الصيفيّ، وتلبسُ حُلة الخريف. لابد أن في حياة كلٍّ مِنَّا طريقاً يشتاق إليه في عالمه المادي المحسوس، فضاء في الطبيعة لتفريغ الأحداث الثقيلة، وشحن النَّفس بقُدسية أثيرية، طريقاً عميقاً نحو الروح، لا نعرف لماذا نُحب تكرار سلوكه. يتساءل جان كلود بورليس في هذا الصدد: «مرة أخرى، أحاول أن أفهم لماذا وكيف أخذت هذه السبيل أهمية كُبرى في حياتي؟».
هذا الطريق، أو الشارع، أو السهل، أو الوادي، أو الممر في بستان... يكون فضاءً فارغاً وواسعاً عادة، ومليئاً بالهواء. تذهب إليه محبةً وشوقاً في كل حالاتك، كما ذهابك إلى بيت صديق قديم وحميم، وتَعْبُرُ فيه ونحوه ومنه إلى ذاتك أنت، تمشي فيه لتتخيّل وتتخفف وتغني وتصرخ وتهرول وتعانق الهواء والمدى، تشعرُ بحالة من الانبعاث الجديد، كلما عدت منه.
يقول ديفيد لوبروطون في (الحياة مشياً على الأقدام): «إننا نحس في بعض الأماكن بأنها تنتظرنا، ولم تكفّ أبداً عن غشياننا. إنه ليس اكتشافاً، وإنما عودة. فالزمن ينفلت من بين أيدينا، وقصتنا الشخصية - بكاملها - تتوجه نحو تلك اللحظة».
ثمة طريق ينتظر مشيي عليه، يغمرني بالصمت والزهو والحنان والحنين الغامض والإحساس العالي بالسكينة والاتحاد. طريق يخلصني من التعود والجمود والجدران، فضاء مفتوح ذهاباً وإياباً دون ملل، طريقي هو سهل مفتوح وسط الجبال، تنضح منه رائحة أفران الفخّار القديم، يُسمى (سهل حقيل).
وثمة طريق آخر في الطبيعة، سريٌّ تقريباً.. مليء بعروق الماء وأشجار السمر والبلابل. أمشي عليه في كل فصول الأرض.
في الهند، على ضفاف خليج البنغال تحديداً، تعود بي الأرض دائماً لاشتياق دروب قروية بعيدة، تمضي بين حقول الأرز والمعابد، وأشجار التين العملاقة، وأمهات الحطب والحقول والمياه، دروب بسيطة منقطعة تماماً عن الحداثة والاتصال الرقمي وإزعاج الهواتف، وتفتيت اللحظة بالتصوير، منقطعة عن الزمن وأجزائه، وتفاصيل الوقت. وفي المقابل، تجعلك تشعر بأنك تملك الوقت والأزمان بوفرة. فتمضي دون أن تعير الساعة اهتماماً، وتلحظ دوران الأرض، وامتداد الظل، وفيض الشمس.. باختصار تشعر وكأنك تعيش في الأبد.
هذه الدروب هي التي تفرض شرطها عليك في قطيعة العالم، وتدعوك لتمضي في العزلة والشرود وحوار الباطن. تمشي عليها وكأنك مع كل خطوة تُبْطِئ إيقاع العالم. وتستشعر أنَّ هذه الدروب تُخفي حكمة وتوازناً جسمانياً ضروريين لتحريك الإلهام والقراءات الحسية والبحث الوجداني والتوثيق النَّفسي لأنثربولوجيا الدرب، كل تلك الحواس تستيقظ بعد أن كانت غافية لمدة طويلة، تنمو في لحظة الإصغاء للطريق، لتتبلور في شكل عمل إبداعي، يأتي لاحقاً بكل هدأة وبصيرة وانبهار في الاشتغال.