يشتهر الأتراك، عموماً، بلطفهم، وكرم ضيافتهم، لكن عندما نتحدث عن شمال تركيا، فإن كرم الضيافة هناك ينتقل إلى مستويات أخرى، قد تصيبك بالذهول أحياناً. فلا تستغرب مثلاً وأنت تسير في الشارع أن يتقدم منك شخص من سكان المنطقة، ويدعوك إلى ارتشاف فنجان من الشاي، أو تناول الغداء، أو حتى البقاء في منزله، أو الذهاب في رحلة بالقارب دون أي مقابل. فهذا النوع من الضيافة غير العادية والترحيب الفائق اللطف بالزوار والسياح، يعتبر أمراً عادياً جداً في شمال تركيا. وإذا كنت تتطلع إلى تجربة فريدة من نوعها، فكن على ثقة بأنك ستجد ضالتك في شمال تركيا، حيث يوجد تنوع لا حدود له في الأماكن الساحرة، التي تجمع بين كرم الضيافة غير العادي، والطبيعة الخلابة، والتراث التاريخي.. فلننطلق، معاً، في رحلتنا هذه، ولنتعرف إلى 3 مدن تركية تقع في شمال البلاد، هي: أماسرا، سينوب، وطرابزون.
«طرابزون».. جوهرة الشمال
في «طرابزون» المطلة على ساحل البحر الأسود من جهة، وسلسلة من المرتفعات الجبلية المبهرة من جهة أخرى، تستقبلك أشعة الشمس الدافئة، ويغمرك همس الأمواج بأسراره الحالمة. تحت سماء هذه المدينة، عاشت الحضارات المختلفة، التي تركت آثاراً تاريخية تعكس التنوع الثقافي. ومع أول خطوة على أرضها، تشعر كأنك تعيش قصةً من «ألف ليلة وليلة»، فالشوارع الضيقة تفيض بالحياة والنشاط، والأسواق تشهد على تبادل الثقافات والسلع، كما أن معالمها السياحية تجمع بين الموروث التاريخي وسحر الطبيعة. وتضم المدينة ميناء كبيراً وعريقاً، كان له أكبر الأثر في الرواج التجاري الذي شهدته المنطقة على مر تاريخها، وتعتبر من أكبر المدن في منطقة شرق البحر الأسود، ومن أرخص الأماكن للاستمتاع بزيارة تركيا.
«طرابزون»، التي تأسست قبل آلاف السنين، حيث يعود تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وكانت ميناءً مهماً على طريق النقل التجاري، الذي ربط بين بلاد فارس والبحر الأبيض المتوسط، تجذب إليها الزوار بشوارعها المتداخلة، والسلالم الانحدارية التي تمنحها طابعاً ساحراً، حيث يمكن اكتشاف العديد من الكنائس القديمة والأديرة والمساجد التي تنتشر في المدينة ومحيطها، ومنها يبرز جمال «آيا صوفيا»، المعلم الذي يعود إلى العصور البيزنطية، ويُعد واحداً من أفضل المباني المحفوظة على مستوى العالم، فبين جدران «آيا صوفيا» تتوزع لوحات جدارية، تصور قصصاً من الكتاب المقدس، وتجسد عمق التاريخ والثقافة. وعلى مر العصور، تحوّلت «آيا صوفيا» من كنيسة إلى مسجد، ثم إلى مستشفى ومتحف، لتعود اليوم وتصبح مسجداً مجدداً. مثلما حدث، أيضاً، بمعلم «آيا صوفيا» الموجود في إسطنبول.
ومن المعالم السياحية، التي تعكس الفن والحضارة الأوروبية، يبرز قصر مصطفى أتاتورك، الذي بني على الطراز العثماني المميز، ويضم العديد من المقتنيات والتحف الأثرية والعملات المعدنية، من عهد الرومان.
وإلى جانب المواقع الأثرية، التي تستعرض تاريخ المدينة عبر حضاراتٍ عدة بصبغة عثمانية أصيلة، تشتهر «طرابزون» بمعالمها الطبيعية المُتنوعة، التي تتمتع بسحرٍ خاص، مثل: بحيرة «أوزونغول»، وبحيرة «سيرا جول»، التي تعتبر من أفضل الأماكن في «طرابزون» المُوصى بزيارتها، حيث تتميز بلونها الأخضر الشفاف، الذي يعكس محيطها من مُرتفعات مكسوّة بمساحات شاسعة من الخُضرة. كذلك، مغارة «تشال»، التي تعد ثاني أطول مغارات العالم، وتقع على ارتفاع 1050 متراً فوق مستوى سطح البحر، وتتميز ببركها وشلالاتها ووديانها، ما يضفي عليها طابعاً مهيباً.
وقبل مغادرة «طرابزون»، لا بد من زيارة سوق «بداستان»، أشهر سوق شعبي مغطى، وأكبر سوق من نوعه في تركيا، إذ يجمع تحت قبته الضخمة والفريدة التاريخ والتراث، ومتعة التسوق والترفيه.
«أماسرا».. عبق التاريخ
من بين تلك الوجهات السياحية المذهلة في تركيا، تبرز مدينة «أماسرا»، بروعتها التاريخية، وجمالها الطبيعي. تقع «أماسرا» على ساحل البحر الأسود، وتضم جزيرتين رائعتين، لمزيد من الجمال والسحر (الجزيرة الكبيرة هي «بيوك أدا»، والصغيرة تحمل اسم «طوشان أدا» أو جزيرة الأرنب). على ساحل المدينة، الممتد على ثلاث جهات مختلفة، يستمتع الزوار بتجارب مميزة، مثل: السباحة، والغوص، والإبحار في قوارب خاصة؛ لهذا تعتبر وجهة مثالية للراغبين في الهروب من صخب الحياة اليومية، لاسيما أنها تبعد حوالي 450 كيلومتراً عن إسطنبول، وتستغرق القيادة إلى هناك حوالي 6 ساعات.
تتميز هذه المدينة القديمة بشوارعها الضيقة والمتعرجة، وبقلعتها الرومانية التي شيدت في القرون السابقة، والتي تحتضن بين أسوارها وجدرانها سحر الماضي، وتفاصيل التاريخ العريق.
عند التجول في أزقة «أماسرا»، ستشعر كأنك داخل لوحة فنية، تعكس جمال وأصالة هذه المدينة؛ فالمباني التاريخية والمعالم الثقافية فيها تروي حكايات ماضٍ عريق، فيما تجعلك المقاهي والمطاعم المحلية، المنتشرة على تلة «بوزتبة»، تعيش فصول قصة هذه المدينة الاستثنائية، وأنت تستمتع بتناول الشاي التركي الشهير، والمأكولات الشهية، التي ينطبع مذاقها اللذيذ في ذاكرتك. ولا يجب نسيان زيارة شلال «غوك دارا» الشهير بمزاياه العلاجية، فمياهه الدافئة تقدم فوائد عدة، وهو مكان مثالي للاسترخاء وسط الطبيعة الخلابة.
«سينوب».. المدينة السعيدة
الطريق الساحلي بين مدينتَيْ: «أماسرا»، و«سينوب»، تجربة مثيرة وخطيرة في الوقت ذاته، فعلى طول هذا الطريق تعيش مغامرة مليئة بالإثارة، حيث يبدو الطريق الممتد على طول 320 كيلومتراً كأنه يسير متمهلاً وسط التلال والجبال والمناظر الطبيعية الخلابة، في مشهد رائع يبدو كأنه يخرج من عالم الأحلام.
ويستغرق السفر على هذا الطريق قرابة الـ8 ساعات، وتتوقف خلالها مرات عدة للاستمتاع بجمال المناطق المحيطة به، ولقاء السكان المحليين الودودين، والمستعدين لمشاركتك قصصهم وتجاربهم. لهذا، إن استئجار سيارة خاصة يعتبر أفضل وسيلة للقيام بهذه الرحلة، لكن لا تقلق إذا لم يكن بمقدورك فعل ذلك، إذ يظل بإمكانك دائماً الاستفادة من خدمة «الدولمش»، أو ما يعرف بالـ«ميني باص»، وهو وسيلة نقل شهيرة في تركيا، ويتميز بقدرته على الوصول إلى أماكن لا تصلها وسائل النقل الأخرى، إضافة إلى رخص تكلفته.
بمجرد أن تصل إلى «سينوب»، يستقبلك هواء منعش، لا يخلو من روائح الأشجار الشهيرة هناك. ففي هذه المدينة تلتقي الغابات الساحرة مع شواطئ البحر الأسود، وتراثها الغني بالتاريخ. تشتهر «سينوب» بتوفير فرص رائعة للمشي والتجول على طول الشواطئ الرملية، واستكشاف الجبال الوعرة، والسباحة في بحيرة شلال «أرفيليك» إحدى عجائب مدينة سينوب الطبيعية الأكثر شهرة. بالإضافة إلى الطبيعة، تتمتع المدينة بتراث ثقافي غني، وتاريخ يمتد إلى آلاف السنين، فهي تشتهر ببنية معمارية تقليدية، ومبانٍ تاريخية، بما في ذلك سجن سينوب الشهير، أحد أقدم السجون في تركيا، الذي تحول إلى متحف، وقلعة سينوب المهيبة التي بنيت في القرن السابع قبل الميلاد، ويقصدها السياح من محبي التاريخ؛ لاكتشاف روعة الماضي، ومدرسة «بيرفان» التاريخية، وهي مدرسة دينية إسلامية، تحولت إلى متحف، وغيرها الكثير من الأماكن التاريخية، التي تعكس تنوع الثقافة والتراث في المنطقة.
و«سينوب» ليست مجرد مدينة تاريخية، بل هي تجربة مذهلة، تدعوك دوماً إلى التجول في شوارعها، واكتشاف سحرها، وستشعر كما لو أنك واحدٌ من سكانها السعداء.