عدتُ إلى البيت الكبير.. بيت الأب الراحل، هو بيتٌ شعبيٌّ في جلفار من سبعينات القرن المنصرم، ارتفعتْ قواعده عن الأرض، واستقبل هواء النهضة مع بداية قيام قواعد اتحاد دولة الإمارات.. تدريجياً، مع تعاقب السنوات، ورحيل الأب، وزواج الأبناء، ورحيل بعضهم إلى العاصمة؛ تحوّل البيت الكبير إلى ملاذ ومتنفس وبستان نخيل ومقيظ ميتافيزيقي، وسليل راحة وأحلام وذكريات، بيت صيفي خاص للخلوة، وإعادة ترتيب خيوط الحياة، نسيج من الصمت والعبث والرطوبة والصلاة بين النخيل الذي زرعه الوالد بأسمائنا، وسمق ومشى بين سفح السماء.
رحلة تبدأ من الداخل منذ نمو الشمس في فجر الجبال، إلى أن تتحول نحاساً يغرب في البحر العميق.. تقول صديقتي، مؤيدة تلك العودة: «كارمتنا في بيت الأب».
تأملتُ جملتها، ومشيتُ وحدي في الخواء والفناء الشرقي للبيت، أتذكّر الأجداد الذين غُسلوا تحت أشجار الحناء. لقد كان الحوش طقساً من الماء والكافور، ودرباً أولياً لإعداد الأسلاف؛ لملاقاة الله، وعودة الأرواح المطمئنة إليه.
للبيت بابان: باب شرقي يُفتح على الجبال ومشهد النمو الأول للشمس. وباب غربي يُفتح على الماء، البحر الجلفاريّ العظيم، وأرخبيل الأصداف واللُّقى. تمشيتُ بين الغرب والشرق، وفتحتُ البابين. فُتِح باب في قلبي على الافتقاد، لا أحد يدخل.. ولا أحد من جهتي يركض خارج البيت، لا شيء سوى الفراغ والسكون، وهواء مشحون بقدسية أثيرية قديمة..
افتقدتُ مشهد الأمهات الجالسات أمام عتبة باب البيت، يتبادلن الأخبار والقلق والتعب.
افتقدتُ رائحة المياه الخضراء الباردة في الأحواض الاسمنتية.
افتقدتُ صوت الشغب، لعادة الهروب من المنزل عند نوم الآباء ساعة الظهيرة.
افتقدتُ المشي حافية في ظل الجدار ساعة الظهيرة.
افتقدتُ الدكاكين المقفلة ساعة الظهيرة، ومشهد انسحاب الظل، ومعامدته الأشياء.
افتقدتُ الشمس التي تصلبنا على سطوح وجدران البيوت، في محاولة منا لقطف ثمار اللوز.
افتقدتُ رائحة اللوز الناضج في ليوان جدتي عائشة.
افتقدتُ صوت مكيفات «جنرال».
افتقدتُ انطفاء الكهرباء على جلفار في الليل، وتحزبات الصبية في الظلام بين سكك البيوت، ولعبهم الحماسيّ مع الجن.. حسب خيالهم.
افتقدتُ ضوء الشمعة والفنر، وتشكلات ظل أصابعنا على الحائط.
افتقدتُ الرؤية الناصعة والواضحة للنجوم بلا نهايات أو بدايات في صفحة السماء.
افتقدتُ تأففنا الطفولي، حينما نصحو على تكتلات الكتب المدرسية المستعملة، التي يأتي بها والدنا من أبناء عمومتنا الأكبر سناً، طالباً منا - بشكل إجباري - قراءتها وحفظ محتواها، استعداداً للعام الدراسي القادم، فنقضي إجازة الصيف نحفظ دروساً لم نأخذها بَعْدُ.
افتقدتُ العبث.. لرنين الهاتف الأرضي، الذي لا يأتينا بصوت مجيب على الطرف الآخر.
حقيقة.. افتقدتُ الأرض الأولى، وشعرتُ بأنني هاتفتها.. بعبثها وفراغها، ومشيتُ في بيت الأب وحدي، متسللة إلى بُعد زمني آخر، وبجهد زائف حاولتُ إبطاء إيقاع العالم.