واقعياً، بمجرد أن يتسلل صوت لبنى الخميس، الشابة السعودية، بنت الرياض، إلى أذننا، ندرك أن الصوت الذي ينساب إلينا من «بودكاست أبجورة»، راوياً القصص والحكايات، غير مفتعل. هو صوت لبنى، الذي يُشبه سيمفونية تقتحم القلب بلا استئذان، مشبعة بكثير من الصدق والإحساس والعفوية. 

لبنى، انتقلت من الصحافة التقليدية، من كاتبة عمود في صحيفة الجزيرة السعودية، إلى الإعلام الجديد، فأسست في 2017 «أبجورة». لكن، قبل التأسيس، هناك الفكرة. فكيف أتتها فكرة إنشاء بودكاست عربي؟ بصوتٍ رنان، تجيبنا: «تعود الفكرة إلى عام 2016، يوم وصلني رابط من شقيقي، غيّر كل حياتي، تضمن نشأة قصة نجاح عربية. ومنذ ذاك الحين بدأت الغوص في شؤون البودكاست، واكتشفتُ أنه يتضمن كنوزاً من المعرفة. أدمنت استماع هذه المنصة، وأصبحت أستيقظ مبكراً على صوت مؤثرين كبار في الإعلام، دخلوا عالم البودكاست، مثل: أوبرا وينفري، ومالكوم غلادويل. تابعتُ المحتوى العربي الجيّد؛ فوجدتُ أنه ضئيل وشحيح، وغير معروف، فأيقنتُ أن ملعبي هنا. انطلقتُ في عالم البودكاست، وأطلقت منصتي الخاصة عام 2017. ولدت (أبجورة)، ولم أكن أتوقع حينها ماهية الخطوة التالية. لم أرد أن أضع توقعات عالية، لكنني أقسمت على وجوب العمل بلا كلل أو ملل في عالم البث الصوتي. ولم يطل الأمر؛ حتى حققت ما أردت، ونجحت في جذب أكثر من مليون مستمع على منصة (ساوند كلاود)، في أقل من عام واحد».

لبنى الخميس درست صحافة بالجامعة الأميركية في دبي، وحصلت منصتها «بودكاست أبجورة» على جائزة الإعلام الجديد في دورتها الأولى عام 2017. تقول لـ«زهرة الخليج»: «أعترف بأن اهتمامي بالوظيفة بدأ يقلُّ تدريجياً، واهتمامي بالإعلام الجديد يزيد. شعرت بأن (أبجورة) عالمية، والصوت أداتي ووسيلتي. واستطعت في فترة قياسية التحليق بأول بودكاست عربي؛ أصبح موجوداً على متن أسطول (طيران الإمارات). استطعنا في (أبجورة) تشكيل بوابة صوتية للناس. وأتذكر أنني كنت حينما أسافر أبحث عن منصة صوتية بودكاست يرافقني في رحلتي، بين طيات الغيوم والنجوم، فلم أكن أجد إلا المحتوى الأجنبي. أما المحتوى العربي، فكان يقتصر على التعليمات، ودعاء السفر. كنت أبحث عن حكايات عربية، فلا أجدها. ولم أكن أعرف أنني سأكون أوّل من سيُدخل البودكاست الروائي العربي إلى (طيران الإمارات)».

اليوم، حينما تسافر لبنى؛ تصغي إلى كثير من البودكاست العربي الجيّد، تقول: «أفرح بالتنافس.. وكم هو جميل أن يتعلم الإنسان كيف يحب منافسيه، ويثني عليهم، ويستفيد منهم. هناك شعور بالسعادة يغمرني، وأنا أسمع البودكاست العربي. أتذكر في كل مرة كلمات والدي: (الموجة الصاعدة ترفع جميع السفن)، وهذا ما حصل في عالم البودكاست العربي، فكلها ترتفع معاً مع اشتداد الموجة، فيطفو ما هو جيّد منها».

صدى الصوت

في عمر مبكر، بدأت لبنى الخميس كتابة عمود في صحيفة الجزيرة، التي أسسها جدها عام 1960. كانت هناك رابطة دم مع الصحيفة. أما اليوم، فتقول: «هناك اتجاهات عالمية جديدة في الصحافة. وأكثر بودكاست استماعاً حالياً في العالم هو (THE DAILY)، من إنتاج (نيويورك تايمز). وأصبح الخبر الذي يصدر، يومياً، عن المنصة الأكثر تأثيراً على العالم. ولذلك أسباب، هي أن البودكاست لا يتطلب الجلوس في الاستديو، والانتظار، ريثما يحين موعد البث، ووجود راديو أو تلفزيون أو حتى صحيفة، بل يمكن لأيٍّ كان الاستماع إلى بودكاست، وهو يهرول، ويمارس الرياضة، أو يتنزه، أو يسافر في المترو، أو الطائرة».

لم تكن تعلم لبنى، في السابق، أنها تملك كل هذا الإحساس في صوتها، فتقول: «حينما بدأت أسمع تعليقات الناس؛ أيقنت أن للصوت صدى؛ فوقعت في دهشة لا متناهية». وتتابع: «أنا لم أتنبأ، ولم أستشرف المستقبل، لكنني عملت في ما أحببت، وحملت كل المعلومات التي ملكتها إلى الناس بصوتٍ علمت، لاحقاً، أن فيه كثيراً من الدفء. فالصوت أكثر تأثيراً من الصورة، إذ يجعل الذاكرة وفية للأشياء والتواريخ والأحداث والروايات. وهناك علاقة حميمة تنشأ بين الراوي والإنسان، وهناك خصوصية ومشاعر وأحاسيس».

تقدم لبنى القصة، وترويها بالصوت لأناس تشعر بأنها تعرفهم، ويشعرون - من خلال صوتها وأدائها - بأنهم يعرفونها، «فهناك علاقة عاطفية عميقة بين الراوي والمستمع، أكبر من قدرتنا على تفكيك ألغازها».

نتذكر، ونحن نصغي إليها، كلمات تشارلز بوكوفسكي، وهو يقول: «صدر عن العصفور صداح خافت: (صو صو صو)»، وبطريقة ما جعلني هذا الصوت أفضل حالاً، فهو السرّ بين الصوت والأذن؛ فالرواية، على ما قالت مؤسسة «أبجورة» موجودة منذ الأزل، منذ أن كان الرواة يبدؤون بقولهم: «كان يا مكان.. في قديم الزمان».

ها هو «بودكاست أبجورة» يدخل عامه السابع. فما المشاكل والعراقيل التي اعترضت مساره؟.. تجيب الخميس: «لم أضع، كما سبق وقلت، توقعات عالية، والصعوبة كانت في التوفيق بين الوظيفة وشغفي، أعتقد أن هذا هو التحدي. فالمشروع لم يكلفني أموالاً طائلة، وكل ما احتجت إليه هو الوقت والحب».

وهل بدأت تحصد اليوم مردوداً منه؟.. تجيب: «طبعاً، البودكاست الجيد يعطي مردوداً جيداً. ومثلما هناك مقدمة برامج جيدة، هناك أيضاً راوية ممتازة. ومثلما هناك كاتبة جيدة، وكاتبة لا، هناك نصوص في البودكاست متميزة وأخرى لا. كنت أستمع إلى الكثيرين، وأتعلم مما هو جيد. النجاح يحتاج إلى أن نمنحه الوقت، وأن نتقن صناعة المحتوى والسرد. وحتى الجمهور المستمع ركب الموجة، وكان التأثير على بعضه ربع تأثير ونصف قلب، وعلى سواه كل التأثير، وكل القلب». وتستطرد: «هناك من أسسوا بودكاست سقط سريعاً، وهذا ما سميناه (متلازمة الحلقة السابعة)، حيث أخفقوا في أول الطريق. قد يبدو تأسيس بودكاست سهلاً جداً، لكنه أصعب بكثير مما قد يتخيله البعض». 

صناعة المحتوى

لبنى الخميس أسست «أبجورة»، لكنها ليست وحدها من صنع قصة نجاح «بودكاست أبجورة»، تقول: «يعاونني فريق من خمسة أشخاص، فهناك من يعاونني في سرد الرواية، ومن يعملون في تأليف القصص، وفي البحث والإنتاج والصوت، والـ(post production). تصوري أننا إذا أردنا إعداد رواية عن الطب الداخلي، على سبيل المثال، فسنقرأ ثلاثة كتب، وعشرات المقالات والأبحاث، ونخرج بثلاث صفحات فقط لتصبح النص النهائي. وأنا أعرف أن هناك حلقات غير شعبية، لكنني أدرك أنه سيأتي يوم، وتأخذ حقها».

أحلام الصبيّة، مؤسسة البودكاست كبيرة، إذ تقول: «أتوقع أن يتحول البودكاست إلى شركة تنتج محتوى أوسع، وتقدم ورش عمل، ودورات في السرد القصصي. أحلامنا كبيرة، والمجتمع السعودي يتطور، وهناك توجه عظيم لتحويل المشاريع إلى قصص».

القصص والسوالف موجودة منذ الأزل، و«أبجورة» عرفت بتقنية البودكاست.. كيف تطور ما كان بالفطرة، وتتناوله من خلال حكايات فيها ألم وأمل، تستحق أن تسمع تحت ضوء القمر، وتحت الشمس، وفي أمسيات الصيف، بحبكة متميزة، تذكرنا بتلك التي كنا نسمعها ونحن أطفال: قصة حورية البحر، والسندباد، وعلاء الدين، وبينوكيو.. وقبل أن نختم نسأل مؤسسة «أبجورة»: هل عملت على تحسين أداء صوتك؟.. تجيب: «كان لديَّ حساب (سناب شات)، أقدم من خلاله تأملات؛ فاعتدت الإلقاء والحديث بنبرة هادئة». هذا سرّ «بودكاست أبجورة»، الذي يتوجه إلى الناس عموماً، وإلى الشباب العربي، ملهماً إياهم وهم - بحسب الإحصاءات - أحبوه، وأخلصوا له. كلمة «أباجور» معناها عاكس الضوء، الذي يتسلل منه النور؛ فنرى ما لم نره - ولن نراه - في العتمة. هذا في المعنى، أما في «البودكاست»، فأباجورة أو «أبجورة» هي واحدة من أبرز منصات البث الصوتي في عالمنا العربي، التي تعرض محتوى استثنائياً، من خلال روايات مفتوحة على أسئلة لا متناهية، في حلقات متسلسلة تأخذنا إلى عوالم وأحداث وسرديات ومعلومات لا حدود لها. نفتح محتوى «أبجورة». نصغي إلى صوت الشابة، التي أسستها، لبنى الخميس، وهي تسرد علينا رواية من روايات «أبجورة». يجذبنا الصوت والإحساس، وتشدنا المعلومات، وتنقلنا الأحداث إلى أماكن ومضامين وآفاق. نعيش السوالف والحِكم والتجارب والقراءات. نسرح في المخيلة. ونرى ما يشبه وميض النور متسللاً من مذياع «أبجورة» مع كل رواية، والبداية سلام: «السلام عليكم، اسمي لبنى، أقدم لكم بودكاست (أبجورة)».