الثلاسيميا الحذر واجب
صحيح أننا لا نختار لأولادنا أقدارهم، لكننا قد نساهم في ذلك بما نمنحه لهم من جينات وراثية قد ترسم ملامح من المعاناة التي يعيشونها في المستقبل.. ومن بين الأمراض التي يمكن الحد من الإصابة بها عن طريق فحص طبي قبل الزواج «الثلاسيميا»، وهو عبارة عن اضطراب وراثي في خلايا الدم، يؤدي إلى انخفاض مستوى الهيموغلوبين، وانخفاض عدد كريات الدم الحمراء عن المعدل الطبيعي، ما يسوق المصاب إلى أعراض الأنيميا، مثل: الإجهاد، والتعب، وغيرهما.. في التحقيق التالي، التقت «زهرة الخليج» مرضى ثلاسيميا، وأطباء متخصصين في أمراض الدم، واستشاريين تربويين؛ لنقف - من خلالهم - على طبيعة المرض، وكيفية العلاج، ونشر الوعي حول أهمية فحص الزواج المبكر، واتخاذ الإجراءات المناسبة لتجنب الإصابة.
تقول فاطمة البلوشي، حاملة للمرض، ووالدة طفلة مريضة بالثلاسيميا: «بدأت رحلتنا مع الثلاسيميا عام 2010، عندما قمت أنا وزوجي بفحص ما قبل الزواج، وعرفنا أننا حاملان للمرض، وأنه لا ينبغي أن نكمل الزواج؛ لأنه من المتوقع أن تكون هناك نسبة 50% خطورة بأن يحمل الأطفال المرض في حال الإنجاب، ونسبة 25% لاحتمال الإصابة، لكن لم يكن لدينا - في ذلك الوقت - الوعي الكافي عن المرض وآثاره، ورغم ذلك أتممنا الزواج، وحدث الإنجاب، ولم أقم بالفحص خلال فترة الحمل، ولم أهتم بالأمر».
وتسرد، بعد تنهيدة عميقة من القلب، قائلة: «بعد شهرين تقريباً من إنجاب ابنتي الأولى (حصة)، بدأت تظهر عليها أعراض التعب، مثل: اصفرار العين، والوهن، حيث كانت حركتها ضعيفة جداً بالنسبة لطفل في هذا العمر، وعندما أجرينا لها الفحوص اللازمة؛ تبين أنها مصابة بفقر الدم، وبالفعل تم نقل دم إليها. بعد 6 أشهر، تأكد تشخيص الحالة وأنها مصابة بالثلاسيميا، وبدأنا في رحلة نقل الدم، وتلقي العلاج المؤلم الذي كان يشمل حقنة موصولة بالبطن، وكنا نخشى عليها الحركة؛ حتى لا تنزع».
لم تتوقف البلوشي عن التفكير في حل لإنقاذ ابنتها؛ حتى هداها الله إلى إجراء عملية زراعة نخاع العظم، لكن هذه العملية لم تكن الحل الأسهل؛ إذ إنها تحتاج إلى متبرع مطابق، وتوضح: «حتى نستطيع تخطي هذه العقبة؛ نصحني الطبيب بالحمل مرة أخرى من خلال (أطفال الأنابيب)؛ للتأكد من إنجاب طفل غير مصاب بالمرض، ليتبرع لأخته. ولله الحمد رزقنا الله بابني (دياب)، واستطعنا - بفضل الله - أن نجري عملية التبرع بعد رحلة عناء، آخرها قلبي الذي انقسم يوم العملية إلى نصفين: نصف مع ابنتي التي ترقد في غرفة العمليات، والآخر مع أخيها في الغرفة المجاورة بانتظار سحب الخلايا التي سيتبرع بها لإنقاذ أخته، وبالفعل نجحت العملية، ولله الحمد، وحقاً لمسنا مقولة: (إن الأمل يولد من رحم المعاناة)».
بدوره، يوضح مريض الثلاسيميا، سيف المطروشي، رحلته مع المرض، قائلاً: «كنت أبكي كثيراً، وأنا في مرحلة الطفولة، ووالداي لم يعرفا سبب ما أنا فيه، وبعدما اصطحباني إلى المستشفى، وبعد إجراء الفحوص اللازمة؛ شخصت بأنني مريض ثلاسيميا»، مشيراً إلى أن والديه ليسا من العائلة نفسها، ورغم ذلك حدثت الإصابة، وأنه من يوم أن شخص بالمرض ينقل إليه الدم مرةً كلَّ شهر، ويشعر بالتعب والإرهاق إذا نقص الدم لديه. ويشير سيف إلى أنه ليس الابن الوحيد الذي أصيب بالثلاسيميا في العائلة، فإن إخوته حاملون للمرض، لكنهم لا يحتاجون إلى تلقي أي علاجات، فقط تتم متابعتهم.
تجنب الإصابة
يقول الدكتور محمد إبراهيم أبو حليقة، استشاري أمراض الدم في مدينة الشيخ شخبوط الطبية: «يطلق على مرض الثلاسيميا (أنيميا البحر المتوسط)، وهو مرض وراثي، ينتج عن خلل في الجينات، حيث يؤثر في كريات الدم الحمراء، خاصة في تركيبة الهيموغلوبين، مسبباً فقر الدم المزمن، وقد تنتج عن الإصابة بالثلاسيميا أعراض تكسر الدم، مثل: اصفرار العين، وتضخم الطحال، بالإضافة إلى التأثير في مراحل النمو في سن الطفولة».
وعن زواج الأقارب ومدى ارتباطه بالإصابة، يوضح: «من الممكن أن يتسبب زواج الأقارب بنسبة كبيرة في الإصابة بالثلاسيميا، وانتقال المرض للأجيال اللاحقة، لذلك لم تتوانَ دولة الإمارات العربية المتحدة لحظةً في بذل أقصى جهودها للتوعية بالمرض، وتوفير فحوص ما قبل الزواج، وبالتالي اتخاذ الإجراءات المناسبة لتجنب الإصابة».
وعلاج مريض الثلاسيميا ممكن بحسب أبو حليقة، ويشير قائلاً: «تختلف شدة الإصابة بمرض الثلاسيميا؛ فقد تكون خفيفة أو متوسطة أو حادة، وفي الحالة الأخيرة يحتاج مريض الثلاسيميا إلى نقل دم بشكل مستمر، وتعتبر الطريقة الوحيدة للشفاء منه هي زراعة نخاع العظم، ورغم هذا فقد أشارت الدراسات الحديثة إلى أنه، خلال السنوات الخمس القادمة، سيتوصل العلم الحديث إلى علاجات جينية متقدمة لهذا المرض، لمساعدة المرضى الذين لا يستطيعون إجراء عملية زرع النخاع».
وعن مدينة الشيخ شخبوط الطبية في أبوظبي، وما تقدم من علاج إلى مرضى الثلاسيميا، يقول: «يوفر المستشفى العلاج المناسب لمرضى الثلاسيميا، إذ يوجد بالمستشفى بنك دم بمعايير عالمية، يستفيد منه أكثر من 70 مريضاً يُنقل إليهم الدم بالمستشفى بشكل دوري، ويوفر المستشفى أيضاً مجموعة من الأطباء المتميزين الذين يتابعون حالات الثلاسيميا، ويبذلون قصارى جهدهم لتلافي المضاعفات. كما افتتحت المدينة الطبية، مؤخراً، وحدة خاصة بالأبحاث والدراسات؛ لاختبار كل ما هو جديد حول مرض الثلاسيميا، وتطوير خدماته». وينصح أبو حليقة مرضى الثلاسيميا باختيار الطبيب المناسب، والمستشفى المتخصص في علاج الثلاسيميا، والذي يوفر نقل الدم بشكل متخصص، وعلى مريض الثلاسيميا عدم إهمال مواعيد الدواء، والاهتمام بتناول الطعام الصحي، قدر المستطاع.
روية.. وحذر
من جانبها، توضح المستشارة التربوية، الدكتورة نعيمة قاسم، أنه من المهم جداً نشر ثقافة مرض الثلاسيميا في المجتمع؛ حتى لا يتسبب في شرخ الكثير من العائلات بعد تكوين الحياة الزوجية، فالحذر واجب قبل الزواج. لكن بعد بناء هذا العش، يجب أن نتيقن أن القدر ساقنا إلى ذلك، وعلينا التعايش، ومعالجة الأمور بتروٍّ وحذر.
وتتابع، قائلة: «الإيمان بقدرة الله، والعلم وما وصل إليه الطب؛ يجعل الأمل في العلاج كبيراً، وعلى أولياء الأمور التعامل مع الحالات التي تصادفهم بهدوء وتقبل وصبر وإيمان، ومراجعة الطبيب باستمرار، وأخذ الحيطة والحذر من التعرض لكسور أو إجهاد؛ نتيجة الهشاشة في العظام، التي قد تصيب المرضى».
الأم الواعية والأب الحكيم، بحسب قاسم، يدركان أن هذا المصاب من عند الله وهو امتحان لصبرهما، فالواجب الاعتناء الدائم، والحرص على نقل الدم، وفق استشارة الطبيب دون التخلي عن المسؤولية، والرفق بحال الطفل، وعدم إرجاع اللوم على أحد الطرفين، مؤكدة أن انعدام الوعي المجتمعي يضاعف المرض، ويؤثر في استقرار الحياة الزوجية، ويهدد أمنها النفسي، ويضاعف، ويضخّم الحياة الكئيبة، وتتساءل: لماذا نصل إلى هذه المرحلة، والقدر هو صانعها؟
وتلفت قاسم النظر إلى دور الإعلام في التوعية بالمرض، قائلة: «الثقافة المجتمعية مهمة جداً؛ حتى نتبع نهجاً غذائياً وصحياً وعلاجياً مع الأبناء المصابين، ونحميهم من التنمر ونبذ الحياة وبهجتها، ونراعي طفولتهم، ومراحل علاجهم؛ حتى نزرع البسمة في حياتهم، فالدعم النفسي ضروري للمصاب بالثلاسيميا، خاصة بعد التحاقه بالمدرسة، ونظرة زملائه إليه، كذلك إذا وصل إلى مرحلة الشباب أو العمل، فمن المهم حمايته من العزلة مع نفسه، ومشاركته البرامج المجتمعية؛ فهذا عامل مهم ومحور رئيسي من محاور العلاج».