هي فنانة تشكيلية، ربيعية الهوى، ألوان ريشتها مشتقة من قوس قزح، رسوماتها حيّة، تعكس وجوهاً ووروداً، أحلاها إلى قلبها زهرة الأقحوان. ننظر إليها فتأسرنا، نرمي أحزاننا، كما تفعل هي، ونستمتع بخطوط ووجوه وورود وأشكال قادرة على أن تقلب مزاجنا في لحظة، في أقل من لحظة، وتحوّل البوصلة إلى مكان أفضل، وأجمل، منتشلة الناظر من أحزانه، آخذة إياه إلى عالمٍ مليء بالشحنات الإيجابية.. إنها نجاة فاروق، التي كلما غدرت بها الدنيا حملت ريشتها وألوانها، وتوجهت إلى أسوان والأقصر، العاصمة المصرية التاريخية، وناجت البحر وألوان التراب ووجوه نساء أسوان، وعادت بأجمل اللوحات.
حتى في أسماء معارضها كثير من السعادة: معرض الفرح، معرض البهجة، عندما كنت صغيرة، خطوات، مجرد خطوط، عروسة ورق، وذات النجاة، ذاتها هي، فلنقتحم ذاتها عالمها، ونحن ننشد الربيع والأمل والمحبة والعنوان والقمر والشمس والنجوم.
«لم أعش طفولتي كما كل صديقاتي، كنت الطفلة الهادئة التي تنظر إلى الأخريات (والآخرين) يلعبون وتبتسم». هكذا تستهلّ نجاة فاروق التعريف بنفسها، وتضيف: «كنت أميل إلى الرسم وليس إلى شقاوة البنات. في الحقيقة كان الرسم عالمي مذ كنت طفلة، وكانت في يدي دائماً (عروسة)، وأوراق أصنع منها طائرات ملونة. أنا أصنعها ورفيقاتي يجعلنها تطير عالياً. وكنت أصنع مراكب وأزينها يدوياً، وأسأل: ماذا وراء البحر من أسرار؟ حتى وأنا جالسة على مقعدي الدراسي، كنت أرسم على حواف الكتب، وهذا ما لفت نظر معلماتي اللواتي رأين بي طاقة. لم أكن أملّ الرسم لحظة. وكنت أنجز في حصص النشاطات إعداد البراويز (الإطارات)، وأضع لمساتي على أعمال الأخريات. كنت حريصة، دائماً، على أن أنجح في ما أحب وأريد».
عروسة ورق
تلك كانت البداية، دخلت بعدها نجاة فاروق كلية التربية، التي درست فيها أصول التدريس والفن على اختلاف أنواعه، من الأشغال الفنية على الأقمشة والخيش، إلى المعادن والخشبيات وأعمال التفريغ والخزف والنسيج والطباعة والنحت وكل شيء. تخرجت في الجامعة، وتزوجت، وانتقلت إلى المملكة العربية السعودية. أنجبت لكنها لم تكل ولم تمل. علّمت ما تعلمته، وتخرجت في صفوفها طالبات يتمتعن بالموهبة، وظلّت ترسم. شاركت في معارض كثيرة، وعملت من قلب قلبها. وأبت أن تعيش لحظة فراغ.
أحبّت الرسوم الزيتية. ورسوماتها دخلت في بداياتها إلى بيوت الكثيرين في السعودية. عشرة أعوام أمضتها هناك عادت بعدها إلى مصر، وفي رصيد عمرها أربعة أولاد، وعشرات اللوحات. عملت في وزارة الثقافة المصرية، وتابعت دراستها، ونالت درجة الدكتوراه في الفلسفة من كلية التربية الفنية بجامعة حلوان، وماجستير في التصميم، وبكالوريوس في التربية الفنية. كل ذلك وهي ترسم وتعتني بأطفالها. تخبرنا نجاة بذلك بفخر وبكثير من التواضع، فهي رسامة مرهفة الإحساس «فوق العادة». تقول: «أقمتُ أول معرض منفرد لنفسي في القاهرة، وسميته (ذات النجاة) ونجاة هي أنا. رسمتُ فيه الألعاب التي صنعتها خلال طفلتي من أقمشة. كنتُ بدأتُ أشعر بأنني كبرت في السنّ من دون أن أتمتع بمرحلة الطفولة واللعب والضحك و(الشقاوة). قررتُ أن أصنع الطيارة الورقية، وأتركها تطير عالياً جداً، وأنا أمسك بالخيط وأتحكم فيها، كان لديّ كثير من الحنين إلى طفولة لم أعشها.. والطفولة سعادة».
معرضها الثاني «عروسة ورق»، هو أيضاً حكاية من حكايات عمرها، توضح: «أتذكر أن جدتي كانت ترسم، حينما تراني تعبة مريضة، عروسة على الورق، وتُمسك بدبوسٍ وتردد مقولة حفظتها وهي توخز العروسة به، ظناً منها أنها تطرد بذلك الحسد. كل خرم بدعاء. هذا ما كانت تعتبره علاجاً، وأنا صدقت ذلك، وكنت أشعر بالتحسن بعد أن تنتهي من دعائها. معرضي (عروسة ورق)، الذي طغت عليه ألوان الأزرق والأبيض والرمادي عكس تلك الفكرة، وكان ناجحاً جداً، وقال كل من حضره: (إنتي كنتي مستخبية فين؟)».
موعد البهجة
سبعون معرضاً، بينها تسعة فردية، شاركت فيها الفنانة التشكيلية نجاة فاروق. لم تكن تهدأ. وحينما تريد أن ترتاح كانت تحضّر أمتعتها وتغادر إلى أسوان والأقصر، فتقول: «أجمل نيل هناك (يجنن)، وبيوت أسوان لها طبيعة خاصة لا مثيل لها، والنساء بشرتهن داكنة جداً، ويلبسن الثياب ذات الألوان المشرقة وألوان البحر كأننا نراها لأول مرة، في كل مرة. وصفاء السماء رائع. كل شيء هناك جميل، ويجعلني أرسم وأظل أرسم ولا أملَّ أو أتعب». وتضيف: «لا أحب الحزن، وأرفض أن أبعث أي طاقة سلبية إلى الآخرين حتى لو كنت تعبة منهكة حزينة، فالتفاؤل طبعي. وفي فترة وباء (كوفيد - 19)، يوم كنا خائفين تائهين، أعددت لوحات جمعتها في معرض سميته (البهجة)، ففكرة انتظار الموت أرفضها، وكنت أكرر: فلنعش ما دمنا أحياء. حميتُ نفسي، وشكلت درعاً خاصة بي، من خلال رسم (موعد البهجة)».
كيف رسمتِ البهجة في زمن الخوف؟.. تجيب: «رسمتُ البنات وحولهن كثير من الأزهار، واشتغلتُ بالخيط. هي المرة الأولى التي أستخدم بها في لوحاتي الخيط، وشعرتُ وأنا أرسم بكثير من الأمان».
هي عرفت ماذا تريد أن ترسم حينما كان البشر في كل القارة مكتئبين. رسمت البهجة، ومن رسوماتها استمدت مزيداً من التفاؤل، فقد أخذت قراراً بألا تدع الحزن يغلبها، وتحصنت في ذلك بأمل بربّ العالمين.
ماذا عن معرضها «مجرد خطوط»؟.. تجيب: «ضمّ رسومات متنوعة، أفرغت فيها الطاقة السلبية، وجعلته كما العلاج، كما العلاج بالفن، عالجتُ فيها نفسي. فالحياة، كما تعلمون، ليست سهلة. فهناك كثير من الحروب والمطبات ولولا الرسومات التي كنت أنجزها لما تمكنت من النوم. اللوحات هي أيضاً علاج للمشاهد، وأمل في أن القادم سيكون أجمل».
أولادها الأربعة أملها في ما سيأتي غداً. ابنتاها «منّة الله»، و«نور» موجودتان في رسوماتها، أما «أحمد» و«يوسف»، الصبيان، فموجودان أقل. وتقول: «البنات يحتجن لأن يرين أنفسهن أكثر من الصبيان، وأن يتحلين بالثقة بالنفس أكثر من الصبيان». وتضيف: «(منّة الله) تحب السفر والشعر، ورسمتها بالخيط، وهي تضع اللوحة حالياً في منزلها الزوجي. أما (نور) فرسمتها الفتاة الشقية عاشقة الرقص والشقاوة، الباحثة دائماً عن اللعب».
رمز الأمل
التحديات كانت موجودة دائماً في حياتها، لكنها تجاوزتها، وظلّت تصارع الوقت دائماً، وتقول: «أرسم يومياً، مع بزوغ الفجر، وقبل أن أغادر إلى عملي، ولا أصدق متى أعود إلى اللوحة. وأنا شغوفة باللون الأزرق، رمز الأمل، وأحب أيضاً اللون البنفسجي، وكل لوحاتي فيها ربيع».
الربيع في لوحاتها موجود من خلال الورود والأمان، توضح: «الورد أجمل هدية أتلقاها، فالورد بهجة. ووردة نتلقاها تقلب مزاجنا، وتمنحنا فرحاً لا يوصف. الورد حبّ أيضاً، والله محبة. والورد رمز من رموز الإنسانية. والعناوين التي تلخص رسوماتي هي: الحبّ والأمان والامتنان والتفاني والتفاؤل والدفء. حينما أرسم أشعر بأن الله معي، إلى جانبي، وهو حباني موهبة جميلة. الطائرة الورقية التي رسمتها وطيرتها هي أمل لي، يعكس عشقي للسفر الذي لم أتمكن من القيام به كما أحبّ. والمركب الذي رسمته أيضاً مثله مثل الطائرة. أحب السفر، وأحب الطبيعة والنظر إلى الناس، وتكوين الذاكرة البصرية، أي الملاحظة، التي تظهر في رسوماتي. وأرى في الوجوه التي أرسمها كبرياء وشموخاً، فأنا أرفض بطبيعتي الانكسار».