تبدأ الأشياء والأمكنة بالتذكير الشعري مع بداية أشهر حمل الأرض وتكوّن السنبلة والاحتفاء بالطبيعة والنور والألوان، المسافة العاطفية الحاصلة ما بين الزهرة والفراشة هي الرحيق، مسك البداية وتناغم يجري في مياه الشمس الواسعة ورحم النجمة الأم.
رحيق الأشياء في مواسم حمل الأرض والتزاوج يذكرنا بقصص وخرافات وأعاجيب قيلت في مسرح الحياة قبل أن يرتدّ بستاننا بالنضج الفكري، وتأخذ الأفكار مساحة أشمل من الروح وينابيع الحس.
في هذا الموسم من أعراس الطبيعة وموعد الارتقاء نحو الربيع، موعد بلل القصيدة بالزهور والطيور والجداول.. أتذكّر فجأة أرض (الخرَّان)، حيث الأرض الحمراء جنوب إمارة رأس الخيمة، والسيرة الخضراء لقبرٍ هناك نام فيه شاعر منذ أربعة قرون، شاعر تسكنه أسئلة العبور الأبدي والسكن الغيبي، فأرض الخرّان ولدت من خرير الماء وصهيله القادم من أعماق الجبال، أرض سهلية حمراء خصبة ـ خزّان طبيعي للعظام والجذوع والحقول وموطن انعتاق ذاهل للروح المغادرة نحو بدايات جديدة وأبعاد زاهية، الخرّان هي الرطوبة من جذور شجر الغاف، وبيت الغفوة الروحية المنتقلة نحو الأبد، فالذي يلمس تربتها ويغفو بين أحضانها يستشعر ذلك النهر الشعري المنبثق من تلألؤ القلب وأعماق الحنين، ووهج الروائح الأولى للأمكنة البكر، فهي أرض روحانية ذات تماس سحري مع الكينونة البشرية والنضج المأمول.
تصير خفيفاً حينما تصل، وتشتاق لشيء.. ربما لعبورك الأسطوري بين الحكاية الماجدية، حكاية اختيار الشاعر لموقع دفنه، لماذا هنا تحديداً في الخرّان؟ الإجابة مطلقة في الأبد، من أين لك بالجواب وأنت لم تزر الخرّان وتألف مساحة تنقل النسيم بين الأغصان وترانيم البلابل بين العشب والمطر وبركة الحقول؟ لقد كان الماجدي ابن ظاهر ذا حدس شعري عميق برحم الأرض، غفى بسلام تحت الغاف، متوحداً مع أشواق الطريق، تاركاً لنا موسيقى العظام والكواكب ورائحة تنهيدة الأرض، وبخاراً يتصاعد من حكاية ذلك الموت الشعريّ الفلسفيّ العميق.