يقولون إن السعادة صحة جيدة وذاكرة ضعيفة. هي تسمع ذلك مرات ومرات في اليوم القصير لكنها تدأب في آخر الليل، حين تضع رأسها على الوسادة، إلى استعادة سيناريوهات نهاراتها الطويلة ومحطات أليمة من ماضٍ حاضر. ذاكرتها القوية تبدد راحتها وسعادتها. هي لا تنسى ولا ترتاح. يقال لها سامحي، حاولي أن تنسي، فتجيب: وكيف أنسى كل الإساءات التي تعرضت لها؟ وكيف أستعيد سعادتي وحمل الذاكرة ثقيل شاق يعيقني؟.. هي منى، إبنة الواحدة والثلاثين، التي انتهى زواجها، بعد أقل من عام، من شاب أحبته بكل جوارحها. والعلة فيه لا فيها. على الأقل هذا ما تعتقده هي.. هي محطة فاصلة في عمرها تنغص حاضرها وترسم ألف سؤال حول مستقبلها. منى، تعيش في الماضي، تعيش مع الذكريات، لكنها ترجو حلا ينشلها وينقلها إلى برّ الراحة النفسية.. إلى السعادة المرتجاة، فهل من نصائح لها؟.. هل علم النفس قادر على مساعدتها؟ وهل يكفي أن تقفل ذاكرتها بمفتاحٍ كبير لتنتقل من حالة إلى أخرى؟ ماذا في نصائح الأخصائية في علم النفس، ومدربة تطوير الذات كارلا مطر إلى منى الغارقة في مشاهد الذاكرة الأليمة حتى النخاع؟
هناك من يقول ويكرر: إن الذاكرة والألم توأمان، فلا نستطيع قتل الألم من دون سحق الذاكرة. فهل يلتقي ما يقال ويشاع مع الحقيقة العلمية؟ الأخصائية في علم النفس كارلا مطر تنصح منى وأمثالها: أن ينسوا الماضي ويسامحوا إذا أرادوا العيش سعداء. لكن، لو كان ذلك بيدها فهل كانت غارقة في الذاكرة الأليمة السحيقة؟ تجيب مطر: «فلنبسط الأمور أكثر. فلتعمل منى على تعزيز حالة (الذاكرة القصيرة) لديها». ماذا يعني ذلك؟ «معناه أن تأخذ الأشياء التي أقلقتها سابقاً - وتقلقها اليوم- وتعمل على وضع ما تمخضت عنه من ألم وراءها، على أن تبقي ما تعلمته من تلك التجارب لتكون عبرة لها في المستقبل».
وتستطرد بالقول «من يريد أن يتقدم عليه أن ينظر إلى الأمام لا إلى الوراء. والسير إلى الأمام يتطلب التخلي عن أحمال الذاكرة الثقيلة، ومن دون ذلك لن يكون هناك أي تقدم، لا بل سيبدو الإنسان المثقل بالذكريات الأليمة الحيّة وكأنه يقاصص نفسه».
نعود لنسأل الأخصائية في علم النفس: هل التخلي عن حمل الذاكرة الثقيل سهل؟ تجيب: «هناك مستويات عدة من الحوادث الأليمة، الراسخة في الذاكرة، منها ما يبدو كبيراً عظيماً، وهناك مستوى آخر بسيط يحتاج فقط إلى قرار. وتضيف: حجم القلق الذي مرّت به منى، وتعيش في دوامته، يبدو وكأنه فوق قدرتها على التحمل ويشكل«تورماً» لها، ما يمنعها من النسيان والتأسيس لحياة سعيدة. هنا يجب أن تعمل منى على فهم قدراتها والعمل على تطوير نفسها من خلال القراءة ومراجعة الذات والانفتاح والتعبير عن ما يزعجها وإذا فشلت فلتطلب المساعدة. فلتتكلم عما ينغص عمرها كي لا تبقى حيث هي».
مشاهير: هكذا استعدنا السعادة
«كنت أظن أن الفنانين سعداء والأغنياء لا يعرفون التعاسة وأساتذة الجامعات يعرفون كل شيء.. فهل رأيتم كم أنا جاهل؟». هذا ما كتبه ذات يوم نائب الرئيس والأمين العام لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني الدكتور عبدلله الفوزان. نعم، ما نظنه عن الآخرين، أو ما يوحيه لنا الآخرون، ليس دائماً صحيحاً. فنانون كثيرون غير سعداء لأنهم يعيشون في دوامة الماضي والخلافات ومن يخرج عن ذلك إنما هو استثناء لا قاعدة.
ندى الكامل، طليقة الفنان أحمد الفيشاوي، كتبت على إنستغرام: «لن أغفر لمن شارك في تعذيبي». هي قصّة حب فاشلة ربطتها بالفيشاوي. فهل سيتمكنان من تجاوز الذيول؟ هي قصة من قصص كثيرة يعيشها الفنانون، أو أزواجهم وزوجاتهم، فيها عذاب وعدم قدرة لا على المسامحة ولا على الفرح.
الممثلة ليندسي لوهان، المميزة أداءً والمليئة ماديا، عاشت فترة طويلة من الفوضى، وضغوطات الماضي والذكريات الدرامية الضاغطة، الى أن استطاعت إعادة تصويب المسار وإفراغ الرأس من الأفكار السلبية والعيش حياة أكثر هدوءا وسعادة. وها هي الآن تقول: أنا أسعد إمرأة.
لاعبة التنس الأميركية سيلينا ويليامز عرفت سرّ سعادتها بعد أعوام طويلة من أحمال الذاكرة المريرة، وقالت عن ذلك: «اكتشفت أن سعادتي تتحقق في أن أحبّ نفسي، وفي حال لم أفعل ذلك فلن يحبني أي شخص آخر. اكتشفت ذلك أصبحت أنسى وأسامح أكثر».
من جهته مغني الراب كاني ويست قال: «تعلمتُ أن أرفض أفكار الآخرين بالسعادة التي تناسبني، كما لو كان هناك مقاس واحد يناسب كل معايير السعادة. تعلمت أن أسامح وأنسى عثرات الماضي كي أعيش بهناء».
الآتي أفضل
نعم، الذاكرة السيئة هي أحد مفاتيح السعادة. وهذا يعني عدم السماح للذكريات السيئة بأن تجعلكم تندمون لبقية عمركم. كل ما يهم هو أن تأخذوا دروساً من الماضي وتتطلعون قدماً نحو السعادة. ما يهم أن تتذكروا أن الدنيا فصول والحياة فصول والذاكرة فصول ولّت، والآتي لا بدّ أن يكون أفضل وستكون الأمور في النهاية رائعة. فما مررتم به سيساعدكم على بناء شخصيات أعظم مما أنتم عليه اليوم. إنها التجارب الماضية التي يفترض استخدامها في بناء مستقبل أفضل.
النظريات طبعاً سهلة لكن ماذا عن التطبيق؟ كل إنسان مهما مرّ بظروف قاسية وحمل ذكريات أليمة قادر أن يكون، في النهاية، سعيداً. «السعادة قرار» تقول الأخصائية في علم النفس كارلا مطر ذلك مضيفة: «فاليقل الإنسان المنهك من ذكريات أليمة: قررتُ أن أصبح سعيداً واليعمل من أجل ذلك. فاليعمل على ذاته واليركّز على الذكريات الجميلة. فاليأخذ ما ينفعه منها ولا يحمل ما يزعجه منها. هذا لا يعني أن ينسى في المطلق. النسيان كلمة ليست جميلة. بل ليسامح كي يرتاح. المسامحة هي من أسس السعادة. جميعنا عرضة في هذه الحياة للمرور في أمور تنغص حياتنا، ولمرور أشخاص سيئين في عمرنا. فإذا حملنا تلك الذكريات معنا ستقهرنا وستحدّ من قدرتنا على المتابعة. الحياة أشبه بطريق نمشيها وكل حمولة زائدة تجعلنا غير قادرين على متابعة السير وستجعلنا نتوقف في منتصف الطريق لذلك فالنتركها والنتابع سيرنا. نحن نسامح الآخرين لنرتاح نحن. التسامح يكون منا لأنفسنا وتأثيرها علينا كمن يعمل على تنظيف نفسه من الداخل. السعادة في التسامح. والتسامح يجعلنا نهمل الذكريات السيئة ونركز على ما هو جميل».
شخص جديد
هناك من يقول «الوقت يشفي جميع الجروح» لكن هذا يتطلب قرارا ذاتيا بذلك «فغالبا ما تأتي سعادتنا من الأشياء التي نختار أن ننساها من خلال تعديل الذاكرة لتشكيل أنفسنا من جديد، ما يسمح بأن يولد فينا شخص جديد في كل وقت».
العمل على الذاكرة يجعل الألم الذي شعرنا به عندما حدثت بعض الأشياء السيئة ليس نفسه لاحقا. ترك الأحداث الأليمة وراءنا أمر ضروري لحياة جيدة مقبلة. فهم الذات يجعل العقل يُحسن عملية إتخاذ القرارات الجديدة ويتحقق ذلك من خلال قرار قلب الصفحة. حاولتم ذلك وفشلتم؟ حاولت منى ذلك وفشلت؟ هناك طريقة لتصحيح ذلك من خلال تغيير سياق الذاكرة وتدوير الأحداث وتذكر ما حدث في الماضي القريب أو البعيد في سياق فكاهي نوعا ما. وإذا كررتم ذلك فإن الخلايا العصبية في الدماغ ستصبح أكثر إيجابية. بكلام آخر، هناك آليتان يمكن استخدامهما لنسيان الذكريات غير المرغوب فيها. الأول، هو إعادة توجيه الأفكار نحو طريقة نظر مختلفة إلى الحدث. والآلية الأخرى تكون من خلال القمع النشط للذكريات السلبية وتجنب ما هو غير مرغوب منها. ولنتذكر أن السعادة لا تأتي من الأشياء التي نتذكرها فقط بل من الأشياء التي نختار أن ننساها. الذاكرة ضرورية ولا بُدّ منها، شرط أن تسمح لنا بالتكيف مع المواقف الجديدة بسرعة أكبر. وثبت علمياً أن من يتمتعون بذاكرة منتقاة عاملة - أي القادرة على تذكر المعلومات ومعالجتها في نفس الوقت- هم أكثر تفاؤلاً وثقة بالنفس وسعادة.