متى وعتها أذني الصغيرة أول مرة؟!
لا أتذكر.. لكنني واثقة أنكِ أنتِ كنتِ صاحبتها! ومن سواكِ؟!
(فداكِ) التي علمتني أن الكلام ليس بعدد الحروف لكن بعظم المعنى الذي يحمله..
في كل مرة كنت أكسر فيها شيئاً.. أفسد أمراً.. أقطع موصولاً أو أُضيّع غالياً..
أربعة حروف فقط طالما كان يظللني بها لسانكِ قبل قلبك في كل مصاب، كأنه يقول لي - غير كاذب- :(أنتِ الأهم.. أنتِ الأغلى.. أنتِ الأقرب ودونك يهون كل شيء)!
أربعة حروف عجز العالم كله أن يجمع مثلها بعدها في كل مرة كنت أكبر فيها، أصطدم بجدران خيباتي وأخطائي وخساراتي، فلا أجد كهفاً يؤويني يتردد بين جنباته صدى (فداكِ) الرائعة خاصتك!
(فداكِ) التي علمتني التهجئة الصحيحة للحواس.. مذاق خبزك، رائحة عناقك، ملمس جديلتك، صوت تهويدتك، و... صورة!
صورة ما أظن لأجمل منها خُلق البصر.. صورتك يا أمي!
رحلتِ يا أمي بعدما علمتني كل شيء، لكنك لم تخبريني بعد: أيّهم يقول لي (فداكِ) وهو يعني كل حروفها مثلك؟! أيّهم يصنع منها قارباً يعبر بي نهر الخذلان.. ومعطفا يقيني برد الندم.. ونسيماً يحرك نهر أحلامي الذي صار راكداً؟!
رحلتِ فتساوت الخسارات وتعادلت كفتا الميزان في قياس مكاسبي، بل وصدأت كل ميداليات انتصاراتي.. وتراجعت كل المشاهد أمام لقطتك وأنت تهمسين بحب (لا يهم مادمتِ بخير.. فداكِ!).. وكيف لا ؟! والسؤال القاسي يصفعني: كيف أكون بخير وقد كنتِ أنتِ كل الخير؟!
تعرفين؟!.. اليوم لأول مرة وجدت الجرأة لأقولها: (فداكِ)! كانت ابنتي تشكو لي بعض خساراتها، فوجدت لأناملي ملمساً يشبه أناملك وأنا أربت على شعرها.. ولعناقي رائحة تشبه عناقك وأنا أضمها إليّ، وللساني صوتاً يشبه صوتك وأنا أهمس بها بين زخات بكاء وابتسامة: (فداكِ)
حينها فقط شعرت أنكِ لم ترحلي.. وأن (بعضاً) منكِ يشبه (كُلّي).. وأن العقد الذي بدأتِ أنتِ رصّ لآلئه لن ينفرط أبداً، بل يوشك أن ينضم إليه المزيد.
حينها أيقنت أن مثلكِ لا ترحل أبداً.. لا تنفد خزائنها ولا يثقب كيسها، بل تبقى تربتها رطبة بأثرها تتحدى أن يطمس بذورها النسيان.