في لقطات تعيد اكتشاف المساحات، الضوء، الظلال، والتفاصيل المبهرة.. عبّر المصور المعماري الإماراتي ورئيس تحرير مجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية بالإنابة حسين الموسوي، عن شغفه بالتصميم والعمارة؛ ليروي - من خلال عدسة ناقدة - قصصاً غير محكية عن روح المباني المحيطة، وسيرتها المعمارية المتفردة، محدداً أسلوباً رصيناً قاده ليكون مرجعاً للتصوير المعماري في بلاده. وبقدرة استثنائية على فهم الإطار الحضري من خلال الكاميرا، وشرحه للمتلقي؛ يؤثث الذاكرة بمفردات بصرية زاخرة بالدلالات الجمالية المخبأة في حنايا الكتلة والمكان.. التقيناه في هذا الحوار؛ للحديث عن تجربته:
• متى بدأت علاقتك بالكاميرا؟
- في أستراليا، وتحديداً بمدينة ملبورن، انطلقت بداياتي في مهنة التصوير الفوتوغرافي. قبلها، وعلى مرّ سنوات، كنت أستخدم كاميرا احترافية، وأنتجت صوراً ذات جودة عالية لأغراض مختلفة، في مرحلة كانت تتسم بالتجريب. إلا أنني، عام 2010، عندما انتقلت من مدينة برزبن إلى ملبورن، التي بهرتني هويتها البصرية، قررت توظيف الكاميرا أداةً أوثق بها للإطار المعماري من حولي، عبر أسلوب دراسة الأنماط. عندها، وثقت لعددٍ من الملامح الحضرية لمدينة ملبورن. وكنت حينها أرى - في ما أقوم به - مشروعاً فوتوغرافياً، إلا أنني كنت - في المقام الأول - أسعى إلى فهم الإطار الحضري من حولي؛ وهو أمر مازلت عاكفاً عليه حتى اليوم.
• شكَّل المهمَّش والمُهمَل أحد عناصر موضوعات عدستك؛ فكيف استطعت التعبير عن غير الملتفَت إليه، وإعادته إلى بؤرة النظر؟
- لم أرَ قَط أن هذه العناصر مهمشة، بل إنها تندرج في خانة المعتاد والنمطي بمدننا. إنها تلك الأشياء المألوفة، التي لا نعيرها اهتماماً؛ لأنها توجد حيثما نظرنا، ومن الأمثلة على ذلك أشجار النخيل، التي نراها في شوارع مددنا، عوضاً عن الأرياف. أنا في العادة لا أوثق للعناصر الطبيعية، لكن هذه الشجرة من الأشياء التي لربما لا نعيرها اهتماماً؛ لأنها مألوفة، وفي الأغلب لا نُقدر قيمتها إلا بعد أن نعيش فترة طويلة في مكان لا نخيل فيه. وموضوعاتي، هي تلك العناصر الحضرية التي تعادل النخيل بوصفه عنصراً طبيعياً، مثل: أبواب المنازل، والأسوار، واللافتات. أما عن أسلوب التعبير عن هذه العناصر، فهو عبر دراسة النماذج العمرانية والتوثيق لها بصرياً بطريقة منهجية خلال فترة زمنية ممتدة؛ والنتيجة: إبراز أنماط تتحدث عن هوية المدن.
• لماذا اتجهت إلى التوثيق للحضور المعماري في دبي؛ وما موقع الفن المعماري في مشروعك الفني؟
- مشروعي مهتم بالهوية المعمارية، والتراث العمراني، في جميع إمارات الدولة، عن طريق التوثيق للواجهات. ولربما انصب اهتمامي - في البداية - على مشروع فوتوغرافي، إلا أنه اليوم مشروعٌ معماري في المقام الأول، حيث لا تمثل الكاميرا إلا أداة. صحيحٌ أنني أراعي - وإنْ على نحو مُضمَر - ضوابط التقاط الصورة؛ لكي تظهر العناصر المعمارية بأفضل حلة، إلا أن الجانب الجمالي يتجلى في ما تخيله المعماريون وصمموه؛ لإبراز الواجهات بأعلى المعايير الفنية. ودائماً أردد أن هذا المشروع يهدف إلى تحجيم «الأنا» في داخلي، وإطلاق عنان «أنا» المعماريين؛ وذلك بالتوثيق للمبنى من زاوية مستقيمة، وليس من «زاويتي الخاصة». ولمّا كان لهذا المشروع بُعدٌ وطني، فإن استكمال تشكيلة صور المشروع سيستغرق زمناً أطول.. أرى ملامحه في نهاية عقدنا الحالي.
• بين أستراليا والإمارات.. حدثنا عن الاختلاف في تجربتك التصويرية!
- عند عودتي إلى الدولة عام 2013، كان هدفي فهم الإطار الحضري قبل التوثيق له؛ وقد تطلب ذلك كثيراً من التمعن. لذا، وخلال سنتين على الأقل، انهمكت في دراسة هذا الإطار من دون التقاط أي صورة. وبالحديث عن الفرق بين تجربتي في أستراليا والإمارات، فإن أعمالي - بالمقام الأول - أبرزت اختلاف هوية المكانين لا أكثر. وبتمعّن أكثر، أجد أن تجربتي في الدولة جذبتني بقدر أكبر تجاه الأنماط المعمارية؛ ما جعل أفقي أوسع بعض الشيء، مقارنة بتركيزي على التفاصيل، عندما كنت في ملبورن. لكن اهتمامي الأصلي بالتفاصيل أتاح لي، اليوم، تشخيص العناصر المكونة لواجهات المباني؛ على أن ما أسعى لالتقاطه حالياً هو الانطباع العام، وليس النوافذ - مثالاً لا حصراً - بحد ذاتها.
• ما موقف إبداعاتك من التغيير؛ بوصفه ثيمة إنسانية تطال مجتمعات المنطقة؟
- التغيير طبيعة الحياة؛ لكننا نحن البشر دائماً نتوق إلى الماضي. ويعود تاريخ كثير من الواجهات - التي وثقت لها - إلى السبعينات والثمانينات، وهي الفترة التي يحنّ إليها كثيرون منا لأسباب متعددة. فمن ناحية معمارية، تمثل هذه الواجهات الصورة النمطية لهوية المنطقة، التي يرتبط بها وجدان العديد منا؛ إذا ما قُورنت بالنماذج المعمارية المعاصرة. إلا أن مشروعي ينظر إلى الماضي بموضوعية؛ لفهم ملامح فترة زمنية بعينها، وأنا أوثق للحاضر أيضاً؛ لأنه سيكون يوماً ما جزءاً من الماضي. لست من الذين يوثقون للماضي من باب «النوستالجيا»، رغم أن كثيراً من الملاحظين يرون أعمالي من هذا المنظور، ولا ضير في ذلك؛ فهذا التوثيق يفتح عدداً من النقاشات، وكل شخص يرى أعمالي من وجهة نظر مختلفة. شخصياً، أرى أنها حالة صحية، تُبرز اهتمام عامة الناس - وليس المتخصصين فحسب - بالمادة التي أشتغل عليها.
• ما أهم مقومات الصورة الناجحة.. من وجهة نظرك؟
- يعتمد هذا اعتماداً كبيراً على الهدف من التقاط الصورة؛ فإذا نجحت هذه الأخيرة في إيصال الرسالة، فإنها تُعد ناجحة. ويمكننا أن نتعمق في عوامل مختلفة تجعل الصورة ناجحة، لكن كون العناصر التقنية والجمالية مجرد أداة لإيصال فكرة ما؛ فإنه ينبغي علينا تقييم جدوى الهدف (هل هو، مثلاً، تقديم قيمة تاريخية، أم اجتماعية، أم مادية؟)، قبل قياسنا مدى تحقيقنا إيّاه. أرى أن أهم مقومات الصورة الناجحة، هي تلك التي تُنسينا الأداة التي التُقطت بها، وتجعلنا منغمسين في المادة، والرسالة.
• لقطة تبحث عنها وتحلم بها عدستك.. ما هي؟
- ليست لقطة واحدة، بل أحلم بـ100 صورة، تمثل تنوع الواجهات العمرانية في شتى أنحاء الدولة؛ لتُعرض على هيئة شبكة، تلخص أرقى طرز التراث المعماري لدولة الإمارات. لديَّ أكثر من 100 صورة، لكنها لا تستوعب - بشكل كامل - الطراز الرفيع الذي أسعى إلى التوثيق له؛ إذ بعد مرور سنين من مشروعي المعماري هذا، لم أعد أصادف النماذج المتميزة (سواء تلك المنتمية إلى الماضي أو الحاضر)، إلا مرة كل شهر تقريباً.