جمع الفن بين أفكار ورؤى الخطاط التونسي كريم جباري، والفنانة التشكيلية الأميركية جيمي براون، في رحلة فنية مذهلة، تشاركا خلالها تصميم العديد من اللوحات والجداريات؛ لتتطور العلاقة بينهما إلى حب كلل بالزواج. جذبه إليها إحساسها الفني الراقي والمتميز، فبادلته المشاعر المرهفة، فقد جذبتها إليه جماليات فن الخط العربي؛ فانطلقا في فضاءات الجمال يعزفان معاً لغة روعة الفنون أينما حلا.. إنها قصة إبداع تتوهج بألوان الحب، التقت «زهرة الخليج» طرفيها؛ ليضيئا على قصتهما في عالم الإبداع والفن التشكيلي؛ فكان الحوار التالي:

يقول كريم جباري، عن بداية تعرفه إلى جيمي: تعرفنا أنا وجيمي عام 2018 عبر الإنترنت، من خلال برنامج «إنستغرام»، حيث اطلع كل منا على أعمال الآخر، ثم كان اللقاء والعمل المشترك؛ لتتطور العلاقة بعد ذلك، وتكلل بالزواج، وعملنا المشترك، غالباً، كان عبر الجداريات الكبيرة، كتلك التي ترسم في العديد من الأماكن والشوارع. وأوضح أن جيمي تتمتع بالقدرة على التشكيل الهندسي واللوني، وأنه يبدع في خطوط الحرف العربي، قائلاً: حدث بيننا انسجام وتوافق في الرؤية وفضاءات التخييل، ما جعل أعمالنا تتميز بروح فنية مختلفة، وبهذه الروح الفنية التي مزجتنا معاً؛ أنجزنا أكثر من خمس جداريات، منها جداريات في أميركا ودبي وكندا، وكان عملي الخطي يميل إلى اللون الأسود والنحاسي والذهبي، فجاءت جيمي لتضيف ألواناً أخرى.

بدايات.. ودراسة

علاقة كريم بالخط العربي تأصلت داخله منذ الصغر، يقول عنها: «بدأت علاقتي بالخط العربي وعمري 11 عاما تقريباً، حيث كنت أتعلم الكتابة عبر تقليد المخطوطات القديمة التي كان أبي يملكها، وعندما كبرت صار الخط جزءاً مني ومن شخصيتي، وعندما سافرت إلى كندا استعملت الخط للحفاظ على هويتي، وكنت دائم الإحساس بأنني مدين له».

ويتابع: «سافرت إلى كندا في عمر العشرين؛ لتحقيق مستقبل متميز؛ فدرست هناك العلوم البيئية، وكنت قد درست في تونس العلوم الاقتصادية بالمدرسة العليا للتجارة، لكن لم أعمل بما درست؛ لأنني كنت قد صقلت موهبتي وهوايتي في فن الخط العربي. وعندما وصلت إلى كندا في شتاء عام 2000 كان البرد شديداً، ولأن الإنترنت لم تكن متوفرة لي وقتئذ، كانت الكتابة هي الملاذ لتخفيف ما أعانيه، وقمت بتقديم ورش عمل للجالية العربية، حتى أقربها من هويتها العربية عن طريق الخط، وهكذا أحسست بأنني مدين لفن الخط العربي الجميل، ومن ثَمَّ قررت بدء التعامل مع الأمر بروح مختلفة وطرق حديثة، لقد أصبحت أكتب؛ لكي أتذكر من أنا». 

  • الفنانة التشكيلية الأميركية جيمي براون

غربة الخط

حاول جباري إيجاد حل لمقاومة غربة الخط والكتابة، فقام بالعمل - منذ سنوات - على فن «الكاليغرافي»، وهو مزج بين الكاليغرافي والغرافيكي من خلال الجداريات، وأصبح ذلك بعد سنوات قليلة موضة، حيث تنتشر الجداريات، والشاب العربي يفتخر بكتابة الحروف العربية، بدلاً من استخدام الحروف اللاتينية. وكشف جباري، قائلاً: «الكتابة بالنور كانت محاولة مني للتجديد، وعندما بدأت عام 2009 كان موجوداً ما يطلق عليه (الرسم بالضوء)، وهو عبارة عن اللعب بالألوان والرسم بالضوء. بالنسبة لي حاولت أن أطوع الحرف العربي والكتابة في الفضاء دون أن أرى، كانت محاولة صعبة؛ لأنه لابد من الكتابة بطريقة عكسية، ومن ثم تطلب تعلمها مني وقتاً طويلاً حتى أتقنتها، خاصة أن أحداً لم يعلمني إياها، ومع إتقاني هذا الفن اعتمدت البساطة؛ لتوضيح جماليات الحرف».

إنجازات.. وإبهار

وعن أفضل اللوحات التي أنجزها، يقول: هناك لوحتان أعتبرهما من أفضل ما أنجزته: الأولى جدارية رسمتها في مسقط رأسي (مدينة القصرين بتونس)، وكانت أيام الثورة، وحملت قصيدة للشاعر التونسي الشهير أبوالقاسم الشابي، أهم أبياتها «ألا انهض وسر في سبيل الحياة.. فمن نام لم تنتظره الحياة». وشاركت معي فيها مجموعة من الشباب، وكانت أكبر جدارية في تونس. العمل الثاني كان في أستراليا، وهو جدارية عبارة عن قصيدة لشاعر أسترالي عن صوت الغربان وهو منتشر هناك، ترجمت هذه القصيدة إلى «العربية»، وصنعت من حروفها جدارية كبيرة مبهرة وسط مجموعة من كبار الفنانين. من السهل رسم جدارية بالوجوه أو الأمكنة أو أي شيء أخر، لكن أن يتم رسمها بالحرف، وأن تبهر التركيبة الحروفية المتفرج؛ فهذا أمر صعب».

جائزة الإبداع الإسلامي

وعن الجوائز التي حصدها جباري، يقول: حصلت على جائزة الإبداع الإسلامي في دبي، كما تم اختيار أحد أعمالي ضمن أفضل 30 مشروعاً بالعالم في ما يسمى «الفن العام»، وكنت قد كتبت اسم خالي في الموقع الذي توفي به أثناء الثورة التونسية بالضوء؛ فالتف حولي الشباب يذكرون أسماء أصدقائهم وأقاربهم الذين توفوا في الموقع نفسه، فأعطي لهم الضوء لكتابة الأسماء، كان العمل بمحض الصدفة، وقد شكل إقبالاً كبيراً، ونال إعجاب المهتمين؛ فتم اختياره ضمن أفضل أعمال الفن العام في العالم.

إقرأ أيضاً:  مؤتمر أبوظبي للمخطوطات يبرز المساهمات الثقافية الرائدة للإمارة
 

كل شخص ناجح في مجاله يواجه الكثير من التحديات، يقول جباري: «أبرز التحديات أن هذا الفن مهدد بالاختفاء، في ظل سيطرة الديجيتال، والذكاء الاصطناعي، والاستهلاك السريع لكل شيء، والتقليد، فليس هناك صبر، كل شيء أصبح صورة مخالفة للواقع، وأنا كمبدع أقوم بفن أستشعر معه الأصالة والعمق. أيضاً فنان الخط العربي يجد صعوبات جمة عند رسم جداريات في بعض البلدان غير العربية، فبعضهم يخافون من الخط العربي». ويقول عن رسالته الفنية: «أكثر الناس في الغرب لديهم فضول لأعمالي؛ لأنني أستعمل الحرف كجسر يربط حضارتي بحضارة المتلقي، وعندما أقيم ورشة كتابة أوضح للمشاركين ماهية اللغة العربية، والروح التي تتجلى في جماليات فن الخط العربي، ومن هم العرب، وما هي حضارتهم، وأن اللغة العربية لغة القرآن.. لذا يخرجون من الورشة، ولديهم شغف الاطلاع على كل ما هو عربي».

جيمي براون: أحب الألوان المتناقضة

وبمشاركة جيمي في الحوار، كشفت أنها ورثت عشق الفن عن والدتها، قائلة: «ورثت الفن عن أمي؛ ولم أدرسه، لكني مارسته كشغف وهواية وموهبة عبر ورش العمل والدورات التدريبية. تابعت أعمال كريم على (إنستغرام)، وأعجبت خاصة بالجدارية التي رسمها في أستراليا؛ فنشأت بيننا علاقة عمل، ثم أصبحت أدير أعماله، وأمثله في الساحة الفنية، ومن هنا توثقت العلاقة».

وأوضحت: «ما جذبني إلى كريم، بعيداً عن كونه فناناً متميزاً، هو معاملته الراقية، فعلاقتنا بدأت بالعمل دون النظر إلى أي خلفيات أخرى، لكن الإحساس بيننا تطور، فكريم إنسان بسيط في كل شيء حتى في ملابسه، ويستخدم اللون الأسود، ويبحث عن التفاصيل الدقيقة في فنه ويعمقها، ما يجعل عمله مميزاً». 

وعن فنها، قالت جيمي: «أحب الألوان المتناقضة والمتضادة والمزج أو الجمع بينها في تشكيلات خاصة، الأمر الذي يستفز مخيلة المتلقي؛ ويجعله يقبل على اللوحة، ويستشعر أنني أحسن اختيار ألواني، كما أنني متمكنة من الألوان، وما تحمله من جمال؛ لذا كثيراً ما أخلق ألواني الخاصة عبر تركيب ومزج أكثر من لون». 

عالم  الديجيتال

قصة إبداعية، يقول عنها جباري: «إن قصتي مع الخط أكبر بكثير من مجرد تشكيل جداريات أو لوحات؛ فأنا مرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه الكتابة، وباللغة العربية؛ لأنها منحتني حياة مختلفة؛ لذا أكتب الآن لكي أعطي الخط العربي حياة مختلفة، خاصة أنه أصبح في غربة. وليس الخط العربي وحده في غربة، بل إن الكتابة أصبحت في غربة؛ لأننا أصبحنا في عالم الديجيتال، وتخلينا عن الكتابة التي هي جزء من أصولنا وتاريخنا، لاسيما أن كل العلوم التي اكتسبها أجدادنا قد آلت إلينا عن طريق الكتابة والكتب؛ فإذا تخلينا عن الكتاب؛ فماذا سننقل إلى الأجيال القادمة عن جماليات الخط العربي؟!».

حضارتان

حول جديدهما في عالم الفن، قال كريم: «سنقوم برحلة بالسيارة، نقطع خلالها معظم الولايات الأميركية، وسنقوم بعمل مشروع فني في كل ولاية، من خلال الرسم بالضوء، ورسم جداريات وإقامة ورش عمل فنية، وسوف نطلق عليه (المحيطان) أو (البحران)، أو (الضفتان)؛ كونه يمثلني أنا وجيمي، حيث التقينا بالبحرين لأول مرة، ولأن كلاً منا سيركز على ما يملكه من خصوصية حضارية وثقافية. وتركز جيمي على المدن التي سكنها أجدادها من سكان أميركا الأصليين، وسوف أقوم بالرسم بالخط العربي، حيث سيكون الخط مثل الجسر بين حضارتَيْنا. ونأمل أن نتوج هذا المشروع بكتاب نضمنه قصص الرحلة، وحواراتها، وتجليات ما قدمناه من أعمال فنية وورش عمل».