لأن الذي يريد أن يصل إلى القمّة؛ عليه ألا يقيس ارتفاع الجبال؛ أمسك بعتاده، وراح يتسلقها، جبلاً بعد جبل، وقمة بعد قمة، حتى اعتلى قمم الجبال السبعة، وعند كلِّ قمة رفع علم بلاده عالياً جداً، حدّ السحاب، متمتماً بلغة الغيوم التي لا يفهمها إلا من أتقن حبّ الطبيعة، ونجح في طبعِ قبلةٍ على جبين جبل شامخ بين أرض وسماء.. إنه المغامر السعودي بدر الشيباني.
يُعرّف عن نفسه، قائلاً: «رجل أعمال، ورياضي، ومغامر». لا نحتاج، ونحن نسمعه، إلى مجهود استثنائي؛ كي نتأكد أننا أمام رجل كلما غامر أكثر ابتسم أكثر. وسرعان ما يؤكد بنفسِهِ ظنوننا، كأنه قرأها على جبيننا؛ فيُخبرنا بأنه أحبّ، منذ صغره، التحدي وعدم البقاء في منطقة الراحة (comfort zone)؛ لذلك قرر أن يحمل عتاده ويغامر. نسمعه؛ فنتذكر مقولة باولو كويلو: «إن كنت تعتقد أن المغامرة خطرة؛ فجرّب الروتين القاتل». نتركه يأخذ نفساً عميقاً؛ قبل أن ينطلق في شرح حكايته مع المغامرة والجبال والحياة.
بدأت الحكاية قبل سبعة أعوام، كان يشارك يومها في اجتماع تحفيزي؛ فسمع ما بدّل كثيراً من أفكاره التقليدية المسبقة، سمع أحد المدربين يتكلم عن منطقة الراحة عند الأشخاص، ورفضهم الخروج من دائرة الصداقات نفسها، والعمل نفسه، والهوايات نفسها، والطعام نفسه، ويقول: «أيقنت، يومها، أن التميّز لن يكون أبداً بالبقاء في دائرة الراحة، بل بخوض تجارب جديدة، ورياضات جديدة، ومغامرات جديدة».
المدرب أعطى، يومها، رياضة تسلق الجبال مثالاً للتجدد والمغامرة، فقال بدر الشيباني، في قرارة نفسه: «لماذا لا أتسلق الجبال؟»، وهذا ما كان. أول جبل تسلقه كان «كليمنغارو» في تنزانيا، واحتاج إلى أسبوعين كي يصل إلى قمته. ويومها، رافقته زوجته الدكتورة باسمة، وعادت ورافقته أيضاً في مغامرة تسلق قمة جبل «كازايوسكو» في أستراليا. بعد قمتي الجبلين، اكتفت باسمة بذلك، وتابع هو تسلّق الجبال الأقسى، الأعلى، والأصعب. ويقول: «أوّل مرة تسلقتُ فيها الجبال وصلت إلى قمة كليمنغارو، وفقدتُ إرسال هاتفي الجوال، ولم أجد (واي فاي)، ابتسمت؛ فقد وجدتُ فرحاً في الانفصال المؤقت عن ضوضاء الحياة والمدن، وركزتُ على نفسي وأفكاري».
القمم السبع
سمع بدر الشيباني، أو بالأصح الدكتور بدر الشيباني، الحاصل على دكتوراه في الصيدلة الإكلينيكية، بتحدي تسلق القمم السبع الأعلى عالمياً؛ فتردد صوت في أعماقه، يقول: «لماذا لا أتحدى محطماً النمطية اليومية، ومحلقاً خارج دائرة الراحة الخاصة بي؟»، وهذا ما كان. «كليمنغارو» في أفريقيا أولى، ثم «كازايوسكو» في أستراليا ثانية، ثم قمة «البروس» في أوروبا ثالثة، وقمة «فنسن» في القطب الجنوبي رابعة، ثم قمة «أكونكاجوا» في أميركا الجنوبية خامسة، وحلّت قمة «إيفرست» سادسة، وسابعة وأخيرة (وليست آخرة) قمة جبل «دينالي» وهي الأعلى في أميركا الشمالية. هكذا، نجح المغامر السعودي في تحدي القمم السبع في سبعة أعوام. ويتذكر هنا: «يوم صعدنا، أنا وزوجتي، أول قمتين، وهما الأقل علواً، قلتُ لنفسي: انتهيتُ من قمتين ولاتزال هناك خمس. وأصبحتُ بعد كل قمة أتسلقها أقول: انتهيت من ثلاث، وهناك أربع بعد، ثم انتهيت من أربع وهناك ثلاث بعد، وهكذا فزتُ بالتحدي في يونيو 2022».
منطقة الموت
الاستعداد لتسلق الجبال ليس بسيطاً أبداً؛ فقد احتاج الشيباني إلى 55 يوماً لإنجاز المهمة، وإلى أشهر من التحضير المكثف قبلها. يقول: «لكل جبل تدريبات خاصة لتسلقه، ومعدات وأجهزة محددة، ولوجستيات مختلفة». ويستطرد قائلاً: «الرحلات كانت مليئة بالتحديات، بينها: مسألة السفر الطويل، وبرودة الطقس في الجبال، وصعوبة مواجهة العواصف، والسقوط المتتالي في حفر، وأقسى ما واجهته كان خلال تسلقي قمة إيفرست التي ترتفع 8900 متر عن سطح البحر؛ فهناك رأيت أمواتاً حاولوا قبلنا الوصول إلى القمة، ولقوا حتفهم. هناك جثث أبقت برودة الطقس ملامحها في منطقة جبلية تسمى (منطقة الموت)، ويضطر العابرون بها لاستخدام الأكسجين الاصطناعي. مررتُ إلى جانب الجثث، لكنني لم أمعن النظر فيها وأنا أتسلق؛ كي لا أصاب بما يُشبه الذعر وأعجز عن المتابعة».
الطريق صعب وتتخلله مطبات، لكن ماذا عن لحظة الوصول وتحقيق الهدف؟ يجيب: «لم أستطع استيعاب المشاعر التي طغت عليّ في تلك اللحظات، وكانت مزيجاً من الفرح والفخر والاعتزاز. وهناك سؤال لازمني عند كل قمة: (وماذا بعد؟). أدركت حينها أن لا شيء أعلى إلا الفضاء والقمر والنجوم والسحاب؛ لذا قررت المشاركة في تدريبات بمحطة روسية فضائية».
عضّة الصقيع
مغامر من الدرجة الأولى بدر الشيباني، لكن ماذا عن نوعية التدريبات التي سبق وأجراها قبل تسلق الجبال؟ يجيب: «أتدرب يومياً من خلال تسلق قمم وجبال محلية، كما أتدرب نفسياً دائماً؛ كي أتمكن من تحمل مشاق السفر الطويل، والبعد عن أولادي وزوجتي». فهو أب لثلاثة أولاد، يخاف عليهم من لفحة الهواء، ويتذكر: «ودعتهم قبل تسلقي قمة إيفرست، كما وقعت بوليصة تأمين بقيمة 15 ألف دولار، في سبيل الإتيان بجثتي حال توفيت فوق الجبال».
أول اتصال يجريه المغامر السعودي، حينما وطأت قدماه القمم كان لزوجته باسمة، وأول فعل يقوم به هو رفع علم بلاده المملكة العربية السعودية على القمة. ويقول: «المشاعر التي تجتاحني تكون كثيرة، وهي تختلف بين القمة والتسلق نحو القمة». ويضيف: «أتكلم أثناء تسلق الجبال مع نفسي، قلت لنفسي ذات مرة: ما الذي تفعله بنفسك يا بدر؟ ما الذي يجبرك على النوم في العراء، في درجة حرارة دون الثلاثين، وتكبد مشاق التسلق والتعرض للمخاطر؟ لكن الجواب كان يأتيني في كل مرة من داخلي: «إذا أقدمنا على مغامرة؛ فلا بدّ لنا أن نقذف وراءنا كل المخاوف». ويتذكر: «أقسى ما كنا نواجهه صحياً، هو إمكانية إصابتنا بالعمى الثلجي. وقد أصبت به لمدة 17 ساعة، بسبب انعكاس أشعة الشمس على الثلوج. وعضّة الصقيع كانت تواجهنا، اًيضاً فلا نشعر بأطرافنا، وإذا لم نعمل سريعاً على تداركها قد تصاب الأطراف بـ(الغرغرينا)». ويكمل ممازحاً: «في آخر تسلق قمت به نحو قمة جبل دينالي، قلت لنفسي: عافاك بدر كونك تجاوزت كل المراحل السابقة بلا إصابات كبيرة، وما هي إلا لحظات حتى سقطت في حفرة عميقة.. حسدت نفسي».
إقرأ أيضاً: خبر سار.. «هيدروجيل» جديد أقوى من الغضروف يساعد على التخلص من آلام الركب
في بدايات قيام المغامر السعودي بتحدي التسلق، كان يسمع من يقولون له: لماذا تتعب نفسك؟ ولاحقاً بدأ هؤلاء يقولون له: «تابع ونحن معك»، وحالياً أصبحوا يشيدون به. وأجمل اللحظات كانت حينما عرف أن بلاده فخورة به.
بدر هو المغامر السادس في المملكة العربية السعودية، الذي يُتمُّ تحدي تسلق القمم السبع بنجاح. ويقول للشباب والشابات: «مارسوا رياضات جديدة، اخرجوا من دائرة الراحة، وتأكدوا أن شخصيتكم ستتغير وستنفتح أمامكم الأبواب واسعة».