نجحت في كسرِ نمطية الأنثى التقليدية بالعمل، وحصلت على أعلى المراكز القيادية التنفيذية في حقلٍ كان حكراً على الرجال، في واحدة من كبرى شركات قطاع النفط والطاقة العالمية «أرامكو»، مؤكدة - بإنجازاتِها الكثيرة - أن لدى المرأة الطموحة القدرات الذهنية والمهارات القيادية، التي تمكنها من كسر الحواجز، والتغلب على الصعوبات، والوصول إلى أعلى المناصب.. إنها هدى الغصن، المرأة السعودية المثابرة، التي تتحلى بالعزيمة والنظرة التفاؤلية، الشجاعة في مواجهة التحديات، التي آمنت، دوماً، بأن العمل الدؤوب لا بُدّ أن يؤتي ثماره.. ولو بعد حين.
أمضت هدى الغصن أكثر من خمسة وثلاثين عاماً في شركة أرامكو، وكانت المرأة السعودية الأولى التي ارتقت إلى مركز القيادة، خلال ثمانية عقود من عمل «أرامكو»، مستعينة بإرادة لا تلين، وبدعمٍ من والدتها، رحمها الله، التي كانت تملك نظرة بعيدة وحكيمة وتفاؤلية، إذ تقول: «لم يكن هناك معنى لكلمة إحباط في حياة والدتي، إذ تميزت بقوة شخصيتها، وشجاعتها، واعتمادها على نفسها في إدارة أمور حياتها. وتعلمتُ منها الاستقلالية والثقة بالنفس وتحمل المسؤولية، خاصة في الخيارات الشخصية. وهي التي غرست فيَّ عزّة النفس والكرم والنزاهة والرأفة واحترام الآخرين، بغض النظر عن خلفياتهم، ومراكزهم، ودرجة علمهم».
• كيف كانت طفولتك، وما الذي أسهم في تكوين شخصيتك القي ادية؟
ـ الحياة مع الأسرة كانت مدرسة متنوعة الثقافات والحضارات. فالوالدان - رغم تعليمهما المحدود - كانا واسعَي الأفق، واهتمامهما بالتعليم كان أولوية، خاصة لنا كبنات. وكنا، في طفولتنا، مثل الإسفنجة نمتص كل ما يضرم شعلة الفكر والخيال والفضول، ويضيف كل ما هو جديد لاستكشاف عالمنا الصغير. ولم أكن أكتفي بما أكتسبه من التعليم الأكاديمي، فدأبت على إثراء معرفتي بالبحث في علوم الفلسفة والسياسة والأدب والعلوم الإنسانية. وهذا ما ساهم في تكوين قدراتي الذهنية، وشخصيتي عموماً. ولم تكن أحلامي، يوماً، بمنصب قيادي، أو شهرة، أو وضع اجتماعي، أو ثروة، بل لإشباع شغفي بتعزيز المعرفة التي تنمي التفكير المنطقي العقلاني، وتقوي الثقة بالنفس لاتخاذ قرارات سليمة. ولم يولد لديَّ طموح إلى مناصب قيادية إلا بعد سنوات من العمل والخبرة، وامتلاكي المهارات والقدرات التي تؤهلني لذلك.
• ما الذي أخذك إلى مجال الطاقة؟
ـ كانت الوظائف المتاحة للمرأة، في تلك الحقبة، تقتصر على أعمال ومهن تقليدية نمطية، لم أجدها محفزة، أو ملهمة، أو مثيرة. وكانت «أرامكو» الشركة الوحيدة تقريباً، التي تقدم فرصاً متنوعة وممتعة للنساء. و«أرامكو» لديها تجربة تاريخية رائدة في تأهيل المرأة؛ لتكون عنصراً فعالاً ومؤثراً في مسيرتها. وهذه كانت تصورات وتوقعات الوالدة؛ حينما شجعتني ودفعتني بحماس إلى الالتحاق بتلك الشركة.
أسباب النجاح
• كيف نجحتِ في اعتلاء المناصب العليا في «أرامكو»؛ وصولاً إلى موقع المدير التنفيذي؟
ـ رحلتي المهنية لم تكن سهلة على الإطلاق، فالطريق كان طويلاً وشاقاً ومليئاً بالتحديات. ولم أرفض أي مهمة عمل أسندت إليَّ، وعملت بجدية وتفانٍ وإخلاص في جميع المهام الوظيفية. ورغم التحديات فقد وصلت إلى منصب المدير التنفيذي، بعد 32 عاماً من الخدمة في الشركة. وقد حققت هذا النجاح بالمثابرة على التطوير الذاتي، واكتساب المهارات القيادية، والاستفادة من تجارب الآخرين، والنظرة التفاؤلية والشجاعة في مواجهة الصعوبات والتحديات، وتعزيز الثقة بالنفس، وعدم الاستسلام للضغوط والأزمات التي كنت أواجهها، في محيط يسيطر عليه الطابع الرجولي.
• ما أنواع الضغوط التي واجهتها بالتحديد؟
ـ من أبرز العراقيل عقدة التفوق الذكوري، التي تخالف مبدأ العدل والمساواة. وحينما تُبرمج العقول - منذ الطفولة - على أن الذكر هو أرفع مقاماً، وأعلى مرتبة وأكثر نفوذاً وفكراً وعلماً، وأن الأنثى ضعيفة وغير قادرة على التفكير العقلاني المستقل، ومحدودة الذكاء، ولا تستطيع رعاية وحماية نفسها. يؤدي ذلك إلى تهميش قدرات المرأة ومواهبها، والتشكيك فيها، والحدّ من نشاطاتها وتعليمها وطموحها وعملها. والخطر هنا أن هذه النظرة الدونية تثبط عزيمة الفتيات؛ فتصبح ثقتهن بقدراتهن مشوهة؛ ما يضعف تطلعاتهن وطموحاتهن. ويخلق نوعاً من التردد عند أرباب العمل في الاستثمار بتدريبها وتطويرها، ومنحها مسؤوليات أكبر. وهذا ما حدث معي في بداية مسيرتي؛ إذ كانت أجواء العمل تنافسية حادة، وجميع المراكز - ذات الأهمية والسلطة - يهيمن عليها الرجال، كما كانت معظم برامج الشركة التطويرية والتحفيزية تسلط الضوء على الرجال، الذين كان لهم القسم الأكبر في الترقيات والمكافآت. ورغم ذلك؛ فقد استطعت منافسة الزملاء والتفوق في الأداء والإنجاز. وحينما ارتقيت إلى مناصب أعلى؛ شعرت بأنني بدأت أشكل تهديداً أكبر لثقافة الرجال في محيط العمل، الذين ينظرون إلى المرأة عموماً نظرة دونية.
قرارات غير نمطية
• هل لاتزال حصص النساء السعوديات الريادية في مجال الهندسة والطاقة والتكنولوجيا منخفضة؟
ـ نعم، وهذا ما يؤثر في خياراتها المهنية، ويحد من فرصها في المجالات غير النمطية. وهو انعكاس لتحيز عميق الجذور ناجم عن التوقعات المجتمعية والتقليدية لدور المرأة في الاقتصاد والمجتمع. ولا يتعين على النساء، لاسيما في منطقتنا، أن يتعاملن مع «السقف الزجاجي» فحسب، بل أيضاً مع «الجدران الزجاجية»، التي تحصر المرأة في المهن النمطية الأنثوية، وأثبتت أنها أكثر سماكة وصلابة. إن تمكين المرأة في أعمال ومهن غير تقليدية يتطلب استراتيجيات تشمل برامج بناء القدرات والمهارات في المجالات غير النمطية.
• وصفت بأنك واحدة من النساء الأكثر نفوذاً في العالم؛ فماذا يعني ذلك؟
ـ النفوذ هو القدرة على صنع وتنفيذ القرار بحكمة وعقلانية، والتأثير في الأنظمة والسياسات القائمة، والاستراتيجيات المستقبلية، والتأثير أيضاً في العقول وجذب الدعم ومساندة القرارات غير النمطية. والنفوذ قوة تأثيرية، وإمكانية فردية في إحداث تغييرات جوهرية جذرية بثقة وشجاعة، حتى لو كانت عكس التيار السائد. ومن الطبيعي أن يكون الشخص ذو النفوذ مسؤولاً عن تبعات ونتائج قراراته، وتأثيرها في تحقيق الأهداف المجزية، ورفاهية الآخرين. وهذا ما شعرت به حينما حققت نجاحاتي.
إقرأ أيضاً: سوسن البهيتي: سأقدم الأغاني الكلاسيكية بطريقة «أوبرالية»
• كتبت مذكراتك في كتاب «كيان مطلق».. ماذا أردت أن تقولي؟
ـ (كيان مطلق) لا يتعلق فقط بالذكريات والأحداث وتجارب الحياة. وهو ليس مجرد سرد لمسيرة امرأة كافحت من أجل نظام منصف؛ للاعتراف بقدرات وفكر وشخصية المرأة الفردية، بل هو دعوة إلى استكشاف مكامن قوتنا البديهية، وإمكاناتنا اللانهائية من خلال توظيف الإرادة الحرة؛ لتوجيه وإدارة حياتنا بما يتوافق مع نداء الروح.
• ما أصعب موقف واجهته؟
ـ المواقف الصعبة في مجال العمل يمكن معالجتها وتجاوزها والتغلب عليها. أما الموقف الشخصي، الذي كان صعباً عليَّ تجاوزه فهو وفاة والدتي، رحمها الله، فبرحيلها شعرت بأن عالمي انهار تماماً. فقد كانت والدتي داعمي الأول، وملاذي وسندي في الحياة. وقد استغرق الأمر سنوات طويلة؛ حتى استطعت تجاوز هذه المحنة، والتصالح مع ذاتي؛ للمضي قدماً في حياتي.
نظرة المرأة إلى نفسها
• هل المرأة قادرة، بالفعل، على كل شيء؟.. هل صحيح أنه لا مستحيل أمام المرأة؟
ـ نعم هذا صحيح؛ فالمرأة أثبتت - عبر الأجيال - أنها قادرة على تحقيق طموحاتها رغم العراقيل والعوائق. والمرأة في عالمنا العربي كانت دائماً وأبداً، في الماضي والحاضر، شجاعة، ذكية، مثابرة، قوية الشخصية، واثقة بنفسها، قادرة على كسر الحواجز، وتحمل الصعاب، ومواجهة الأزمات بصبر. وأنا أؤمن بأن النساء إذا كان هذا طموحهن؛ فهن قادرات على إدارة أمورهن بأنفسهن؛ لضمان حياة كريمة مجزية ومرضية قدر الإمكان. لقد برهنت المرأة أنه بإمكانها تقلد المناصب القيادية؛ إذا كان هذا جزءاً من طموحها وتطلعاتها، ولدينا في مجتمعاتنا عدد كبير من الشخصيات النسائية العظيمة، اللاتي كن قائدات، وفرضن نفوذهن بالعقل والحكمة.
• هل توافقين على مقولة «إن المرأة عدوة المرأة»؟
ـ لا يمكن فهم تلك المقولة إلا في إطار سلبي، القصد منه نشر العزلة، وهدم التضامن النسوي. أعتقد أنها مقولة ذكورية، يتم ترويجها لتشويه قضية المرأة، وبث التفرقة. وهذا لا يعني أنني لم أواجه منافسة من قِبل النساء والرجال على حدٍّ سواء؛ فمشاركة المرأة في سوق العمل على نطاق واسع جعلت التنافس بين النساء ظاهراً أكثر للعيان، وهذا ليس لأسباب بيولوجية أو فيزيولوجية أو جينية، بل لأسباب ثقافية بيئية سيكولوجية وجودية. كما أن المعركة التنافسية بين الرجال تكون أكثر شراسة، لكننا لم نسمع أحداً يقول: إن الرجل عدو الرجل أبداً.
• ماذا تقولين للمرأة السعودية والخليجية والعربية المترددة؟
ـ التردد عند المرأة هو ضعف يؤدي إلى الإخفاق؛ إذ إن نجاح المرأة - أو فشلها - يعتمد على نظرتها الشخصية إلى نفسها، وإيمانها بقدراتها ومهاراتها، وصمودها أو استسلامها للمحبطات، والتشكيك في قدراتها وإمكاناتها العملية والإبداعية. ولو نظرنا إلى عدد من النساء اللامعات؛ سنجد أن المرأة الناجحة هي التي أخرجت الإحباط من قاموس حياتها، وحولت الصعوبات والمعوقات إلى حوافز. فالمرأة الناجحة في كل مكان واثقة بنفسها وقدراتها وإمكانياتها، ولا تزعزع العراقيل والشكوك ثقتها بمهاراتها، وترفض التصورات الدونية، المبنية على أفكار حصرتها في أدوار ثانوية، وهمشت قدراتها الذهنية.
ازرع خيراً تجنِ خيراً
عندما طلبنا من هدى الغصن أن تقول لنا من هي هدى الغصن، قالت: «هي امرأة ذات أسلوب خاص، هادئ، وحاسم، نظرتها إلى الحياة دائماً تفاؤلية؛ حتى في الأوقات الصعبة، واثقة بنفسها، مستقلة بذاتها وفكرها، تؤمن بقدراتها الداخلية، كما أنها تسعى، دائماً، نحو المعرفة والحقيقة، من خلال التأمل والتبحر في الفلسفات الروحانية والميتافيزيقية والمعرفية والوجودية. ترفض التطرف والتعصب والعنف في معالجة الأزمات، وتؤمن بالاعتدال والتسامح في الثقافة والعقيدة، واحترام البشر كافة. كما أنها متصالحة مع ذاتها، وتتحلى بالصبر والانضباط، ومبدأها (ازرع خيراً، تجنِ خيراً)، وتؤمن بأن أساس السعادة هو السلام الداخلي، والاكتفاء الذاتي.. وتتناول (الشوكولا)!».