اكتشفت الروائية التونسية، أميرة غنيم، ذاتها المبدعة صدفة؛ فأسلمت أشرعة قلمها لرياح العبارة، التي أوصلتها إلى شواطئ سرد مبهرة، وعلى حواف لغتها البكر، باتت تنوع أساليبها، دون أن تركن لواحد بعينه؛ فترجمتها خلقاً وإبداعاً وتواصلاً، مع قارئ نقلته إلى فضاءات مدهشة، وخلعت عليه لقب سلطان زمانه. هي أستاذة لسانيات بالجامعة التونسية بسوسة، وحاصلة على درجة الدكتوراه في اللغويات، ونالت العديد من الجوائز والأوسمة، منها الجائزة الوطنية للترجمة (2018). وجائزة «راشد بن حمد الشرقي» عن رواية «الملف الأصفر» عام 2020، وجائزة «الكومار» عن روايتها «نازلة دار الأكابر»، التي تم ترشيحها، أيضاً، للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) العام الماضي.. ومن البدايات كان معها هذا الحوار:
• كيف كانت بدايتك مع كتابة الرواية؟
- حدث الأمر بلا تخطيط مسبق، كالقضاء يقع ولا يستأذن. كنتُ قد شرعتُ في كتابة أطروحة الدكتوراه حينما تملكّني سأم قاتل، ورغبة لا تقاوم في سرد حكاية، لستُ أدري كيف التأمت أحداثها في ذهني، ولا متى. وإذا بي ذات مساء أدفع بظهر يدي، ليس دون شيء من الخجل وتأنيب الضمير، وثائق البحث الجامعيّ، وأفتح على الحاسوب ملفّاً جديداً؛ جعلت له على سبيل التعمية اسماً أكاديمياً، كمن يتستّر على فعلة نكراء.
وخلال أشهر قليلة، وبحماسٍ مازلت - إلى اليوم - أستغربه؛ ألفيتُ نفسي أروي قصّة غسّان الجوّادي، وهكذا نشأ مخطوط رواية «الملفّ الأصفر»، التي رصدت - في كتابة عفويّة - التحوّلات التي شهدها المجتمع التونسيّ بعد قيام الثورة، وآثارها. ثمّ تدخّلت الأقدار بعد خمس سنوات كاملة، ودونَ أملٍ حقيقيّ أرسلتُ المخطوط للمشاركة في جائزة «راشد بن حمد الشرقيّ للإبداع» بإمارة الفجيرة، ففاز بالمركز الثاني. والحقيقة أنّ ذلك الفوز كان نقلة نوعيّة في مساري ككاتبة؛ فهو الذي شجّعني على نشر رواية «نازلة دار الأكابر»، التي عرفت نجاحاً كبيراً في تونس حال صدورها.
• من أيّ الينابيع ينضح إبداعك؟
- لو كنتُ أدري لتعهّدت الينبوع، وزرعتُ حوله كروماً وياسميناً، وأحطتُه بسياج؛ إشفاقا من يد العابثين. في الواقع إنني لست أدري كيف أكتبُ، ولا أعلم المؤثّرات التي تحفزني على الكتابة، أو تترك طابعها المميّز في نصوصي. أعتقد أنني أمتحُ من النسيان ذاكرةً سرديّة. فآلاف الصفحات التي قرأتُها، ثمّ نسيتُها، كوّنت لي رصيداً من التراكمات غير الواعية، تخرج في لحظة لا نعرف لها اسماً؛ فنسمّيها اللحظة الإبداعيّة، لحظة ينثال منها عسل الحكايات على مرارة اليوميّ، وإكراهاته، وضغوطه؛ فإذا بالحياة تحلو فجأة بسحر السرد.
• كان من بعض همومك الروائية أن تجربي بنية سردية مختلفة.. هل هذا التجريب سمة في إبداعك الروائي؟
- ليس سمة أساسيّة؛ فالكلاسيكيّة - أيضاً - نمط في الكتابة يوافق هوايَ وذوقي. لكنّي أحاول التنويع حتّى لا تتحوّل الكتابة بدورها نشاطاً رتيباً، يعيد إنتاج القوالب والأشكال نفسها، ولا يوفّر لصاحبه متعة المغامرة في مسالك غير معبّدة. من هذه الزاوية أرى التجريب ضخّاً لدماء جديدة في جسم الرواية يقيها الترهّل والتقادم، لكنّي لست من غلاة التجريب، الذي يكاد يخرج بالجنس من مقوّماته الأساسيّة؛ فيصبح خرقاً لعقد التلقّي، وانتهاكاً لميثاق السرد الجامع بين الباثّ والمتلقّي.
• هل نجحت في إنجاز هذه البنية؟
- سؤال النجاح أو الإخفاق يُطرح على النقّاد متى قيّموا سائر المنجز الإبداعيّ، ويجيبُ عنه على نحو عفويّ جمهور القرّاء، من خلال إقبالهم على العمل، أو إعراضهم عنه. ولا أعتقد أن تقييم الكاتب لنفسه يقدّم إضاءة حقيقيّة عن أعماله، بل إنّي من دعاة اكتفاء كلّ ذي اختصاص باختصاصه، دون التدخّل في ما يخرج عن مجال كفاءته، فعلى الكاتب أن يكتب فحسب، وعلى الناقد أن يقرأ ويُناقش. أمّا القارئ (ناقداً وكاتباً) فسلطان زمانه، له أن يعطيَ رأيه متى شاء، وكيفما شاء، غفلاً دون تفسير.
• ما تقييمك لحركة النقد الروائي العربي؟
- على الساحة نقّاد أفذاذ، بعضهم مختصّ بالنقد، ومكتفٍ به، ومبرّز فيه، وبعضهم يجمع إلى موهبة النقد موهبة الرواية. وفي كلتا الحالتين توفّر لدينا، اليوم، تراكم محترم في المدوّنة النقديّة العربيّة. وأعتقد أنّ الجوائز الأدبيّة كانت - في السنوات الأخيرة - محفّزاً على هذا التراكم، بقدر ما كانت، أيضاً، موجّهة له توجيهاً لا يخلو أحياناً من إجحاف. فالنصّ المتوّج بجائزة، أو المتقدّم أشواطاً في مسار التسابق، يلفت نظر النقّاد، ويثير شهوة أقلامهم. وفي المقابل، قد يلبث النصّ الجيّد غير المتوّج نسياً منسياً لا يحفل به النقد، ولا يوفيه حقّه.
• ما أقرب أعمالك إلى قلبك؟
- هو كتيّب من 100 صفحة، كان رسالة جامعيّة في علم الدلالة، أنجزتُها وأنا طالبة بالجامعة، وعنوانه «الفضاءات الذهنيّة»، فاتني وقتُ نشره، لكنّه ظلّ الأقرب إلى قلبي؛ لأنّه باكورة إنتاجي، وأولى معاناتي الفعليّة في مجال الكتابة الأكاديميّة.
إقرأ أيضاً: طريقة إمساكك بالقلم قد تنبئ بالإصابة بهذا المرض!