تحبّ الناس، تحبّ التعرف إلى أكبر عدد من الأشخاص في أيّ حفل أو مناسبة. ودودة. ولا تجد أيّ صعوبة في فتح قلبها للآخرين، حتى لأشد المنغلقين على أنفسهم. ولطالما اعتبرتُ ذلك قوّة فيها. لكن، أكثر ما بات يضايقني منها، يوماً بعد يوم، هو إصرارها على «الثرثرة». صديقتي لا تسكت. إنها تصرّ على إخباري بقصصها بالتفصيل الممل، وحينما أخبرها بشيء تقاطعني بالكلام عن حادثة مملة لا تعنيني ولا تهمني. لمّحتُ لها، مراراً، أن كلامها كثير، ووقتي ضيّق. أخبرتها بأن معارفنا المشتركين يقولون عنها: ثرثارة. فلم تبالِ. وفي الأمس، يوم تُوفيتْ والدتي، جلست في التعازي، وبدل أن تكون عزاءً لي شكّلت عبئاً عليَّ. سمعتها تتحدث عن كل شيء، وفي كل شيء. وعين الحزين كما تعلمون ضيقة. وأدركتُ - في تلك اللحظة، التي كنتُ فيها بحاجة إلى من يسمعني - أنها لا تنصت إلا لصوتِها. صديقتي الأقرب كثيرة الكلام، بشكل لا يُصدَّق، فكيف أتصرف معها؟ هل أقطع علاقتي بها نهائياً؟ هل عليَّ مواجهتها بحالتِها بلا لف أو دوران؟ هل حالتها نفسية، أم أن الثرثرة مجرد طبع فيها؟
إنها حقاً مشكلة. وهي ليست حكراً على الجنس اللطيف، فهناك رجال «ثرثارون» أيضاً، لكن الاتهامات تصبّ أكثر على النساء، ربما لأن المرأة بطبيعتها أكثر عفويةً في التعبير، وفضولية غالباً أكثر، وتحب التوغل في التفاصيل، والمشاركة في «صبحيات» عامة، تتجاذب فيها مع نساء أخريات الحديث عن كل شيء.
على كل حال، لنطرح مشكلة «لاما» على أصحاب الاختصاص لفهم حالتها أكثر، وتبيان ما إذا كانت مريضة ثرثرة، أم هذا طبع فيها؟
الاختصاصية في العلاج النفسي، سيسيليا ضومط، تقول: «إن من (يثرثرون) يتطرقون، عادةً، إلى ما له معنى، وما ليس له معنى ولا فائدة أيضاً. فالثرثرة تكون تعبيراً عن قلق وخوف في دواخل هؤلاء الأشخاص، وعن الحاجة، ليقولوا: نحن هنا. وهذا ما نراه غالباً عند الأشخاص الوحيدين، وكبار السن كثيراً، الذين يعيشون وحدهم. فهؤلاء يخافون من الوحدة، وحينما يلتقون بأشخاص يعرفونهم يحاولون كسر وحدتهم بسيل من الكلام الذي لا نهاية له؛ للتخلص من الملل، والشعور بالوحدة. الثرثرة تظهر عند من يعانون (فراغاً) داخلياً غالباً. ومعلوم أن الإنسان بطبيعته اجتماعي، ويحتاج إلى (التواصل) مع الآخرين. وهذا معناه أن كل شخص بحاجة إلى الانفتاح على الآخر. وهناك أشخاص منفتحون أكثر، وأشخاص منغلقون أكثر. و(الزائد أخو الناقص) في المجتمع. وعلاقة الاثنين تشكو شوائب. هناك أمر آخر يدفع إلى الثرثرة، هو إثبات الذات و(الأنا)، والغرور عند بعض الأشخاص؛ كي يلفتوا نظر الآخرين. هاجس هؤلاء التكلم عن أنفسهم. وتدريجياً تُصبح هذه (الأنا) مشكلة لديهم مع الآخرين».
مبالغة في الكلام
واضح أن الناس الذين يعرفون القليل يتحدثون كثيراً، أما الذين يعرفون الكثير فلا يتحدثون إلا قليلاً.
على كل حال، هل معنى ما سمعناه أن «الثرثار» لا يملك عادة أصدقاء، أو أن أصدقاءه يكونون «مرحليين»، كما حالة «لاما»؟ تجيب ضومط: «في البداية، يستمتع معهم الأشخاص الجدد. لكن، مع الوقت ينفرون ويبدأون في التهرب منهم. وعادة، يفرح في لقاء هؤلاء الأشخاص المنطوون على أنفسهم؛ لأنهم يساعدونهم على الانفتاح على الآخرين بشكل أسهل، فيتمكنون من تحطيم الحواجز التي يواجهونها عادة في التقرب من الآخرين، خصوصاً في المناسبات الكبيرة التي يجدون أنفسهم فيها وحيدين ضمن جماعة كبيرة. لكن، مع الوقت، يُصبحون - حتى لهؤلاء - مزعجين؛ كونهم لا يتركون لهم فرصة الكلام والمشاركة. وهذا، بطبيعة الحال، يدفعهم إلى الابتعاد عنهم».
سؤالٌ آخر يُطرح: هل يعرف هؤلاء الأشخاص أن الناس يبتعدون عنهم بسبب ثرثرتهم المفرطة؟
تقول المعالجة النفسية: إن أمثال «لاما» يحتاجون إلى وقت طويل؛ كي يلاحظوا أنهم يتسببون في إزعاج من هم حولهم. فهؤلاء لا يكتشفون بسهولة مبالغتهم في الكلام. وحتى إذا اكتشفوا ذلك لن يكون سهلاً عليهم لجم ألسنتهم؛ لأن هدفهم واحد وهو (الكلام). لذا، يهم جداً لجوء هؤلاء الأشخاص إلى اختصاصيين، يساعدونهم على تحقيق التوازن، واكتشاف سبب كمية الكلام التي يرهقون بها الآخرين. وحتى، إذا لاحظ «الثرثار» إيماءات الآخرين، التي تشي بانزعاجهم من إفراطه في الكلام يغضّ النظر. أمرٌ آخر يبدو جلياً مع أمثال «لاما» هو أنهم لا يعرفون معنى الإصغاء. ولا يريد هؤلاء، ولا يهمهم، الإنصات للآخر، حتى إذا رأيناهم يستمعون إلى «متكلم» يكونون - في قرارة أنفسهم - في حالة تركيز على أفكارهم، ويحضّرون أنفسهم لما يريدون التحدث به فور سكوت المتكلم. فهؤلاء لا يبالون بما يقال بل بما سيقولون. ويعاني هؤلاء لذة سماع أصواتهم، حتى حينما يطلبون نصيحة لا ينصتون إليها.
إذا كانت هذه حال هؤلاء، فكيف يمكن التعامل معهم؟ هل على رفاق «لاما» تجنبها أم مصارحتها؟
تُحبذ اختصاصية علم النفس تجنب مثل هؤلاء، وادعاء الانشغال؛ كي لا تتسبب العلاقة المتوترة في تصادم ومواجهة. لأنه، بلا مداواة، صعب على أمثالهم الاقتناع بأن «خير الكلام ما قل ودل».
في الختام، يهم أن يتذكر الجميع أن الكلام مثله مثل الدواء، إن أقللنا منه نفع، وإن أكثرنا منه صدع.
5 أسئلة.. 5 أجوبة
1. لماذا يشعر «الثرثار» حينما يتكلم عن نفسه بالسعادة؟
- عندما يُكثر الإنسان التحدث عن نفسه؛ فإن دماغه يفرز هرمون المتعة (الدوبامين)، وبذلك يشعر بأنه كافأ نفسه فوراً وهو يتحدث، ويتحدث بلا كلل أو ملل.
2. ما الوصف الذي يُعطى، غالباً، لـ«الثرثرة»؟
- التحدث بشكل يوصف بالحماقة، بلا هدف، كما النقر الشديد على وتر واحد، أو قرع الطبول، بلا فواصل، ولا نقطة في آخر السطر.
3.هل كلام «الثرثار» يكون، غالباً، مشوَّشاً؟
- بالفعل، هذا ما يحصل، ويجعل التواصل اللفظي بين طرفين صعباً أو حتى مستحيلاً، خصوصاً إذا كان «الثرثار» يتحدث بسرعة خوفاً من أن يداهمه الوقت، قبل أن يُفرغ كل ما في جعبته من كلام، والأسوأ أن جعبته تلك لا تفرغ.
4. هل «الثرثرة» دليل على قلة الثقة بالنفس، أم مرض نفسي؟
- إنها مرض نفسي، سببه غالباً عقدة دفينة يعانيها «الثرثار» دون أن يعي ذلك. وهو يكثر، غالباً، من كلامه ليخفي قلقه الكامن في أعماقه، ظناً منه أنه يُصبح بذلك محبوباً من المحيطين به. وطبيعي بالتالي أن تكون ثقته بنفسه ضعيفة.
5. هل تشير «الثرثرة»، أحياناً، إلى شخصية نرجسية؟
- نعم.. فالنرجسيون يريدون الاستحواذ على كل شيء، ومن ضمن ذلك الكلام؛ لذلك يتطرقون - في حديثهم - إلى أدق التفاصيل، ولا ينتبهون إلى ما يقوله الآخرون، ولا يهمهم أساساً ما لدى سواهم من كلام ليقولوه.
فريدة حرحار «ثرثارة».. وفيروز متكتمة
انطلاقاً من مقولة: «الكلام ضرّ ما نفع»، ينصح كثيرون بعض المشاهير بالصمت قليلاً، تمثلاً بأقرانهم الذين يحافظون على خصوصيتهم. لكن، على مَنْ تقرأ مزاميرك يا داوود؟ ثمة مشاهير يثرثرون كثيراً، ويخلقون لأنفسهم مشاكل بالجملة، ومن هؤلاء المغنية البريطانية أديل، التي اعترفت بقولها: «أنا ثرثارة كثيراً، وأقول أموراً خاطئة في أحيان كثيرة». في المقابل، هناك مشاهير يحتفظون بأسرارهم لأنفسهم، ويتجنبون البوح بها، وبين هؤلاء: بيونسيه، ولورين هيل، وجوليا روبرتس، وساندرا بولوك، ودانيال كريغ. المطربة فيروز، بالكاد، تتكلم هي أيضاً في العلن، وتحتفظ لنفسِها بكثير من الأسرار.
وفي حين هناك مشاهير، مثل كيم كاردشيان التي «تثرثر» على «تويتر» ليل نهار، هناك آخرون، مثل: براد بيت، وجورج كلوني، رفضوا إنشاء حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، ويحسبون كلامهم قبل النطق به.
والفنانة الجزائرية، فريدة حرحار، سبق واعترفت: «كنت ثرثارة». نلفت، هنا، إلى أن كثيرات من الممثلات السوريات، بينهن غادة بشور، اعترضن على مسلسلات سورية، تُظهر المرأة سطحية وثرثارة. وغادة بشور نفسها جسدت دور امرأة قوية وثرثارة في مسلسل «زوال».