لا بُدّ أن تكونوا قد سمعتم عن شخصية «الدرويش»، أو سمعتم من يطلق على إنسان وصف «الدرويش»، وعلى جماعة صفة «الدراويش». لكن، أن يُصبح رسام تجريدي - تصدّر المعارض العالمية - «درويشاً»، فهذا دليل على أنه نجح في «تقمص» شخصية رسمها؛ فباتت فيه، وبات فيها، وأصبحا واحداً. فلا «درويش» من دون رؤوف الرفاعي، ولا رؤوف الرفاعي من دون «درويش». فلنتعرف أكثر إلى رسام باتت رسوماته بمثابة علاج نفسي لحالة، لمجتمع، لمشاعر. وبات كلّ من يُحدق فيها يدرك أنه «الدرويش»، والرسومات ليست إلا انعكاساً لهذه الصفة.
نسأله عن البُعد في لوحاته، فتُذكرنا إجاباته بتلك المقولة التي أطلقها ذات يوم بابلو بيكاسو، ومضمونها: «بعض الرسامين يحوّلون الشمس إلى بقعة صفراء، والبعض الآخر يحولون البقعة الصفراء إلى شمس». نعم، لوحات رؤوف الرفاعي، وهو لبناني جاب العالم، تنقلنا بين عالمَيْن: الواقع والخيال، كأننا نتنقل بين القمر والشمس. فما حكايته مع الرسم؟ وما حكايته مع «درويش»، و«الدراويش»؟ يجيب: «يوم أمسكتُ الريشة أول مرة ورسمت الطبيعة، في مدينة الشمس بعلبك، كنت في السابعة من عمري.. وانطلقت الحكاية. رسمت المائيات، ورسمت على القماش، واستخدمت تقنية تقطير الألوان على القماش بدل استخدام الريشة، وكنتُ - دائماً - مشحوناً بالمشاعر في رسوماتي. رسمتُ المناظر الطبيعية، وأنتجتُ مجموعة التناغم (harmony) المركبة من قطع ملونة. ومنذ نحو عشرين عاماً، وُلد (درويش)». نصغي إليه يتحدث عن «درويشه»، عن «دراويشه»، عن الإنسان الطيب، الحساس، الآدمي، الحزين، النصاب، الكريم، الفاسد، الناقم. «درويش» هو كلّها. «درويش» هو انعكاس لكل تلك الحالات التي يمر، أو قد يمر، بها الإنسان. «درويش» هو الإنسان اللبناني والعربي والخليجي والأوروبي، والأميركي والهندي.. هو الكائن الحيّ. هو كلنا. حتى لو كان يُشبه - في الشكل - اللبناني التقليدي، أيام زمان، بالطربوش والشروال.
في كل رسم يخطه رؤوف الرفاعي، بقلبِهِ قبل اليدين، تجربة بسيكولوجية مختلفة. ومع كل تجربة ينضج «درويش»، الذي فيه أكثر فأكثر. فها هو اليوم، بعد عرض «درويشه» بالجناح اللبناني في «إكسبو 2020 دبي»، موجود في «غاليري نادين فياض». فهو ونادين شكلا معاً مفهوم «غاليري واحد.. فنان واحد». صاحبة هذا الغاليري، الذي ولد في مرحلة عصيبة يمرّ بها لبنان كانت تضع في منزلها، بالمملكة العربية السعودية، خمس لوحات للرسام الرفاعي، لـ«درويشه» بالتحديد، قبل أن تتعرف إليه.
إثارة الدهشة
ينطلق رؤوف الرفاعي في رسوماته من مفهوم بيئي، وهو طالما استخدم التناغم في القماش، وكل ما له علاقة بالذات والطبيعة، جميل هذا الشغف الذي فيه، جميل هو ذاك الانعكاس بين الواقع وبين الرسم والألوان. هناك «كرنفال» اجتماعي في شخصية درويش. وهناك «مسرح كوميديا على تراجيديا» على انتقادي، تُشكلها شخصيات «درويش»، وتعكس كل أنواع المشاكل التي تعيشها الكائنات الحية. «نراه يضحك في رسم، ويعبس في آخر».
لا يعرف الرسام كم لوحة أنجز لـ«درويش» في عشرين عاماً (هي بالآلاف)، فهو يرسم ولا يعدّ، ولا يبالي بالأرقام. يقول: «ما أعرفه أن (درويش) بات يتصدر صالونات بيوت كثيرة، في كل العالم. فقد زار البيوت، وتكلم مع سكانها، بألوانه ومزاجه، وأصبح واحداً من أفرادها، يتفاعل مع كلّ واحد. وما لا يعرفه كثيرون هو أن (دراويش) رؤوف الرفاعي مثل بصمة اليد، لا يُشبه أيّ واحد منها سواه، مثلما ليس هناك أي إنسان، نسخة طبق الأصل من سواه».
نرى «درويش» بشكلِ رجل.. ماذا عن المرأة في «درويش»؟ يجيب الرسام: «لا، ليس هذا صحيحاً، فلا جنس لـ(درويش)، فهو كائن حيّ يمثل كلا الجنسين معاً، إنه رمز، إنه مجرم وبطل.. امرأة ورجل».
ننظر إلى إحدى لوحات «درويش»، نتوغل فيها، نُحدّق ملياً؛ فنراه يضحك، فنضحك معه. جميلٌ أن تعكس اللوحة إحساساً طاغياً؛ فيجتاحنا أو أن يحصل ذلك بـ«المقلوب»، فنكون تعساء، ونشعر بأن «درويش» يعيش معاناتنا نفسها، وهو قلق مثلنا.
لا تقنية واحدة يستخدمها رؤوف الرفاعي، لكنه يستخدم - في 90% من رسوماته - «الرولو» (الدولاب)، يقيناً منه أن الحياة قدرية مثل «الرولو»، الذي حيث يمرّ يطبع ويترك أثراً. ويقول: «اللوحة التي لا تثير الدهشة أعتبرها فاشلة، وإذا لم يدق قلب من يراها؛ فالأفضل ألا يحصل عليها».
هتاف القلوب
وماذا عن الألوان التي يحبها، ويُكثر من استخدامها؟
حينما يكون الرسام فرحاً؛ يستخدم الأسود، وحينما يكون حزيناً يستخدم الألوان، وذلك على نقيض ما يفعله آخرون. ويقول: «كل فنان يمرّ بمراحل عدة، فبيكاسو - مثلاً - استخدم ذات مرحلة الذهبي، ثم الأسود، ثم الأزرق». يضيف: «أنا لا أحب استخدام اللون البنفسجي في اللوحة. وأستخدم، حالياً، الألوان الفوسفورية التي تعكس أضواء. أما المشاعر التي في اللوحة، فلا أعرف كيف بدأت، أو كيف انتهت، فهي تجربة. ولكل لوحة قدرية معينة وصدفة وحالة بسيكولوجية مختلفة وعفوية وانحناءات.. كما الحياة».
بعد أن تحدثنا كثيراً عن «درويش» رؤوف الرفاعي، هل لنا أن نسأل: كيف ولد «درويش»، وفي أيّ ظروف رأى النور؟ يجيب الرسام: «كنت واقفاً مع عدد من الفنانين نتحدث عن الفن، وأحدهم قال إن الفن عالمي. فكرت، كثيراً، في إطلاق فكرة كل من يراها يتذكر الهوية الأصلية. فكرت في (كراكوز)، وشخصية (أبو العبد)، ثم (درويش). وأقمت أول معرض للدراويش في بيروت، لكن كثيرون لم يفهموا الهدف الأبعد من تلك الشخصية، لكنني لم أستسلم، لم أتراجع، ومضيت قدماً. وتدريجياً بات (درويش) (أرتيزانا) لبنانية، و(كراكوز) صعب التخلي عنه، وكائناً حيّاً يمثل كل من ينظر إليه ويحدق فيه ملياً. أكثر من ذلك، بات (درويش) يُدرّس في الجامعات».
قبل أن نختم، نصيحة من الرسام رؤوف الرفاعي: «تريدون شراء لوحة؟ قفوا أمامها.. انظروا إليها ملياً؛ فإذا هتفت لها قلوبكم فاشتروها، وتذكروا أن اللوحة الصادقة لا تكذب أبداً».