في كل مرة أتردد فيها على هذا «السوبر ماركت» ألتقيه!
أجده بين الرفوف، يمشي بخطى واهنة أثقلتها سنوات عمره التي تجاوزت السبعين، يدفع عربته المحملة ببعض علبٍ لأطعمة غذائية، أو أكياس بلاستيكية تحوي حبتين أو ثلاثاً من فاكهة أو خضار.
يتجول متنقلاً بين ممرات «السوبر ماركت»، يرفع علب البضائع يقربها من وجهه، يتفحصها ويقرأ ما هو مكتوب عليها، وبين لحظة وأخرى يتلفت في كل صوب، ينتظر اقتراب أحد منه ليفتح معه حديثاً عن بضاعة انتقاها، يعدد مزاياها أو مساوئها، وإن لم يحدث يدنو هو من أحد المتبضعين، وينطلق في حديث عفوي ينصحه فيه بشراء نوع ما، بدلاً من نوع آخر!
في أول مرة التقيته لم أفطن أن هذا الرجل يقضي معظم وقته في هذا المكان، مكرراً ما يفعله دائماً.
بعد مرات عدة لاحظته، وسرعان ما أدركت أن ما يقوم به سببه الوحدة!
إقرأ أيضاً: د. نرمين نحمدالله تكتب: بالكف الأيسر!
عقلي المبرمج على نسج القصص والحكايات رسم، سريعاً، عوالم من الخيال قد تكون حقيقية لحكاية هذا الرجل.
تخيلته رجلاً قضى حياته كادحاً ليعول أبناءه الثلاثة، لا بل كانوا أربعة حتى نسي نفسه، وبعد أن كبر الأبناء واشتد عودهم أخذتهم الحياة بعيداً عن والدهم ونسوه، رحلت رفيقة دربه، وبين ليلة وضحاها وجد نفسه وحيداً بين جدران بيته الذي تحول إلى ما يشبه القبر، بعد أن خَفَت فيه ضجيج الأبناء والزوجة.
ولأنه أراد أن يشعر بأنه لايزال حياً، ولأن أكثر شيء أراده أن يتحدث إلى أحد ما، قرر أن يقصد «السوبر ماركت» القريب، علَّه يجد بين مرتاديه من يؤانس وحدته!
في «واشنطن سكوير بارك» بمدينة نيويورك، توضع طاولات ثابتة تتوسطها رقع شطرنج مرسومة، على كل طاولة يجلس أحد المسنين منتظراً مرور أي عابر من مرتادي الحديقة ليدعوه للعب جولة من الشطرنج.
رغبة هؤلاء المسنين في كسر دائرة الوحدة التي تحيط بهم تدفعهم إلى ذلك، فليس من السهل على الإنسان أن يعيش وحيداً دون الآخرين، وإذا ما اضطرته الظروف يوماً، فإنه لن يتوانى في البحث عمن يحادثه، حتى إن كان غريباً التقاه بين ممرات «السوبر ماركت»!