ها قد عادت الأسئلة حول الفلسفة وجدواها بالانتعاش من جديد.. وكم طال شوقنا لتلك الأسئلة، أليست حقنا الطبيعي في ممارسة التفكير والحكمة بحرية واطمئنان؟ هي ذلك السؤال النقدي العذب حول ما يعترض وجودنا من أفكار وأحداث ومتغيرات جذرية، هي الإيمان بعدم وجود حقيقة ثابتة واضحة، بل الإيمان بفكرة انعدام اليقين الذي يقابله سؤال وبحث حثيث عن الحقيقة. يقول باشلار: (لا تُدرك الحقيقة إلا في جوّ من الندم الفكري)، فهي الندم الفكري الذي يشكّل عاملاً مُعاوناً على إيقاظ جذوة الروح. وقد تبدو عملية الحوار الفكري بالمراسلة مع الأصدقاء هي الشكل البليغ لإيقاظ الروح عبر الحس الطبيعي الاستدلالي الفلسفي الموجود في دواخلنا بصورة بديهية، تستدعي إنعاشها بين فترة وأخرى. ويستحضرني هنا قول أستاذ الفلسفة «أيان رافينسكروفت»: (إن الحديث عن الفلسفة مع الأصدقاء، أو حتى مع الخصوم الفكريين، يُبقي المرء شاباً). ولا شك أن المعنى هنا كامن في قوة الروح وجاذبيتها وشبابها اليانع كلما اتسعت الرؤية عبر النظرة الفلسفية.
إقرأ أيضاً: الريم بنت عبدالله الفلاسي تكتب: حقُّ اللعب
وبالنظر إلى أي زاوية حوارية في الحياة فإننا سنجد ذلك الأثر الفلسفي العميق في كل الاتجاهات التي نسير إليها، من تلك العلوم المنبثقة في الوجود نتتبع خطى الفلسفة، حيث كانت البدء الكينوني في رحم العلوم، كانت السؤال المشاكس للمحسوسات والظواهر والغوامض، الفلسفة هي الأم، والعلوم كلها بعض من سلالتها، خرجت من عشها، من معطف الفلسفة الأنيق، وبالنظر إلى الأدب والفنون على سبيل المثال فهي شكل من التفلسف الساحر الذي يفتح الأفق عبر أقفال المخيلة والروح والتناغم الإنساني الخلاق، باعتبارها ممارسات تنسجم مع الوجود والأفكار بأدوات السؤال والتحليل والتفكيك للموروث والمسلّمات. في الشعر على سبيل المثال قد يُجسّد الشعراء معاناتهم الروحية والفكرية عبر الاشتغال على ثنائيات ضدية في الحياة، أو بتكثيف المشاعر الرافضة عبر رؤية فلسفية جوهرية.
أما في السرد، فأغلب الأعمال الروائية انبثقت من سؤال وجودي فلسفي أخذ يتوسع على مرّ الزمن ليأخذ مساراً تخيلياً أو واقعياً مستلهماً من السرديات الفلسفية.
الفلسفة إذن تُغذي الأدب والفنون والمعارف، وهي الأصل التكويني لكل هذه الانبثاقات الإبداعية في الحياة الإنسانية. وكما يقول ميشيل سير: (هي مفتاح لكل الأقفال).