للأغنية العاطفية مكانتها بين العشاق، فهي بكلماتها ولحنها وأدائها، كانت وما زالت وستبقى، هدية العشاق المفضلة في كل المناسبات، فعندما يزهر الحب بين قلبين يسارعان للبحث عن أغنية غزلية تعبر عن أحاسيسهما الجياشة، وعندما ينشب الخلاف بينهما يهديان بعضهما أغنيات العتاب والهجران، وعندما يقرران المصالحة يبحثان أيضاً عن أغنية معبرة لحالتهما، وهكذا فالأغنية العاطفية ترافق قصص الحب في كل مراحلها، حتى إن البعض يختارون أغنية ما، لتكون «نشيداً خاصاً» لحكاية العشق التي يعيشونها. «زهرة الخليج» ترصد حال الأغنية الرومانسية في الساحة الفنية العربية، وتؤطر مسيرتها بمناسبة عيد الحب بأقلام عدد من النقاد الفنيين.
سيرة الحب ..والزمن الجميل
بقلم: مريم الكعبي
أجمل ما يمكن أن تتحدث فيه، وأجمل ما يمكن أن تبحث عنه وأروع ما يمكن أن تتخيله، هو زمن أغاني الزمن الجميل، زمن كوكب الشرق، أم كلثوم، وزمن فريد الأطرش وشادية، وموسيقار الأجيال وعبقري الألحان محمد عبد الوهاب، والعندليب صاحب الإحساس المرهف عبد الحليم حافظ.
كانت الأغاني في زمنهم تشكل حالة وجدانية خاصة، حالة تغلفها العاطفة وتغذيها الأشواق، كل تفاصيل الحالة معجونة بصدق المشاعر وعذوبة الكلمات، وإسهاب في التعبير، يجعلك كمستمع تعيش الحالة الوجدانية وتشعر بالحب ولو كنت لم تعش المشاعر من قبل.
تميزت أغاني الزمن الجميل باستحواذها الكامل على الإبداع ومكامنه، كانت هنالك مساحة كبيرة للإبداع، الشعراء أبدعوا، والملحنون أبدعوا، ثم يأتي دور المطرب الذي يشهد ويتابع تكون الأغنية لحين ولادتها وخروجها للحياة عبر حنجرته.
هنالك أغانٍ كثيرة كانت لها حكايات، أما عن الحكايات بعد أن تولد تلك الأغاني فكانت شيئاً آخر، حفاوةً جماهيريةً، ونجاحاً منقطع النظير، وتصفيقاً وإعجاباً وإبهاراً.
أغاني الزمن الجميل ولدت لكي تستمر، لكي تبحث عن المتعطشين للموسيقى الحقيقية، لمن يريدون أن يستشعروا قيمة المشاعر ومعنى عذوبة الحب، الذي أبدع المطربون الكبار في نقش تفاصيله عبر جدران الموسيقى، ليظل هذا الفن أجمل إرث يشكل الوجدان ويرتقي بالذائقة، ويهذب الإحساس، ويعلي من قيمة الحب في حياتنا، ويشكل مذاهب للعشاق، يسيرون على نهج تلك المذاهب حينما يقررون العودة إلى أنفسهم، ويهربون من قسوة الحياة والظروف التي تحطم الأحلام وتسرق قيمة الخيال.
لا يمكن أن نميز بين روعة أغاني زمان، ولكنها فرصة لكي نتحدث عن (سيرة الحب) بالنسبة لأم كلثوم التي يقول مطلعها: (طول عمري بخاف من الحب وسيرة الحب وظلم الحب لكل أصحابه/ وأعرف حكايات مليانة آهات ودموع وأنين/ والعاشقين دابوا ما تابوا/ طول عمري بقول لا أنا قد الشوق وليالي الشوق ولا قلبي قد عذابه/ وقابلتك إنت لقيتك بتغير كل حياتي). وفي أغنيتها الشهيرة (إنت عمري) فنتعرف منها عن مفهوم العمر حينما نحب، ويقول مطلعها: (رجعوني عينيك لأيامي اللي راحوا/ علموني أندم على الماضي وجراحه/ اللي شفته قبل ما تشوفك عينيه/ عمر ضايع يحسبوه ازاي عليّ/ إنت عمري اللي ابتدى بنورك صباحه). أما موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، فقرر أن الحب هو ثلاثية بين المحب والعذاب والهوى في رائعته الخالدة (أنا والعذاب وهواك)، والتي يقول فيها: (أهل الهوى مساكين صابرين ومش صابرين وبيحسدوا الخالي/ أصل الهوى غدار فيه القلوب تحتار مال الهوي وما لي)، أما رائعته (من غير ليه) فهو يبحث فيها عن سبب للحب فلا يجد فيغني: (ياللي زماني رماني في بحر عينيك ونساني وقالي انساني). أما عبد الحليم فقدم قصصاً درامية في أغنياته، لها أبطال وسيناريو، مثل قارئة الفنجان، ورائعته (فاتت جنبنا)، التي يقول فيها: (فاتت جنبنا/ أنا وهو/ وضحكت لنا / أنا وهو).
الأغاني الذهبية في الثمانينات
بقلم: جميل ضاهر
شهدت مرحلة الثمانينات وتسعينات القرن الماضي ولادة مزاج مختلف للأغنية العربية، وسجلت أسماء نجوم ألهبوا قلوب العشاق بأغنيات خالدة، لم يكن بعيداً عنها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي أهدى لنا رائعته (من غیر لیه) قبل رحيله، والملحن الكبير بليغ حمدي الذي أسس لنا مزاجاً عاطفياً فريداً، بدأه مع أم كلثوم وصولاً إلى مطربة الجيل ميادة الحناوي التي اجتاح صوتها البلاد بأغنيات، لا تزال قادرة على بعث الحرارة في القلوب المشتعلة حباً أو المحطمة مثل (نعمة النسيان) و(كان يا ما كان)، إضافة إلى رائعتها الخالدة (أنا بعشقك)، وتلك الأغاني الساحرة هزت وردة الجزائرية وهي التي كانت (الحبيب الأولي) لبليغ، فألحان بليغ لميادة هددت مكانة وردة، مما جعلها تستريح قليلاً لتعود بعد حين بأغنيتها الرائعة (بتونس بیك) من ألحان صلاح الشرنوبي، ولهذه الأغنية العاطفية أهمية استثنائية، فقبل صدورها سيطرت موجة من (الأغاني الكهربائية)، وبات الإيقاع الإلكتروني مصدر تهديد للذوق وللموسيقيين الذين أرغموا على التنحي، إلا أن (بتونس بیك) رفعت الذائقة الفنية عند الجمهور بسبب آلة (الكيبورد)، وأعادت الموسيقيين إلى الاستوديوهات، معلنة أن إحساس الإنسان الموسيقي هو الأقدر على بعث البهجة في القلوب وقادر على رفع قيمة المنتج الفني.
في تلك الحقبة الزمنية أيضاً، صدر ألبوم عمرو دياب (ميّال) وسط موجة سيطر عليها اسم حميد الشاعري، إلا أن عمرو تميز من البداية، مما أهله ليحتل مكانة جعلته في المقدمة حتى اليوم، حقق ألبوم (ميّال) أعلى المبيعات في حينها، وغيّر قواعد السمع ومفهوم الحفلات لكن هذا لم يلغِ ذاك، فبذات الفترة قفز جورج وسوف من لقب الطفل المعجزة إلى لقب سلطان الطرب من خلال أغنياته العاطفية (روحي يا نسمة)، (الحبايب) و(الهوى سلطان)، وانفتاحه على الملحنين المصريين شاكر الموجي وسيّد مكاوي، مما جعله نجماً عربياً.
لم يبتعد راغب علامة عن هذا المشهد الفني فبرع في تقديم (يا ريت فیي خبیها) و(قلبي عشقها) إلى جانب ماجدة الرومي ووليد توفيق الذي كان يحتل حيزاً مهماً من خلال أغنياته، التي لاقت نجاحاً كبيراً في العالم العربي مثل (بهية) و(جسر 6 أكتوبر)، وما زالت (انزل يا جميل على الساحة) أنشودة الاحتفالات، وبذات الحقبة كانت أغاني هاني شاكر تحقق نجاحاً باهراً (علّي الضحكاية) و(حكاية كل عاشق).
أيضاً، شهدت فترة الثمانينات انتشار الفيديو كاسيت وهذا كان عاملاً إضافياً لانتعاش سوق الأغنية وانتشار الفنانين، فلم يعد غريباً أن تسمع أغنية (عيناك) لخالد الشيخ في شارع الحمرا في بيروت أو أغنية (أنشودة المطر) للفنان محمد عبده في مقهى دمشقي، ووسط هذا الزخم الفني وغزارة الإنتاج، دخل صوت ومزاج ولهجة مختلفة إلى الساحة الغنائية العربية، هذه المرة الصوت قادم من العراق المنهك من الحرب، فكلمات أغنية (عبرت الشط على مودك) باتت على كل لسان من الكويت إلى لبنان مروراً بالأردن وسوريا، لم يضيع الفنان كاظم الساهر الكثير من الوقت ليدخل المستمع العربي إلى مملكة الشعر العاطفي إلى نبع الحب، فكانت قصائد نزار قباني مدخلاً لكاظم الساهر إلى كل البلاد العربية، فأعاد الهيبة للقصيدة المغناة وللكلمة التي تصل الصين ببغداد، فبعد عبد الحليم وذاك الزمن الذي قدم فيه (رسالة من تحت الماء) و(قارئة الفنجان)، كان من المستحيل إعادة عقارب الساعة والمزاج وتلك الحقبة المفعمة بالرومانسية، لولا موهبة بحجم موهبة الساهر.
الأسماء التي ذكرتها في هذا السرد ليست وحدها التي شكلت ذائقة الجمهور العربي منذ مطلع الثمانينات، بل هناك العديد من الأسماء الفنية والأغاني الجميلة لكن الزمن له دورته، سقطت بعض الأسماء، إلا أن من تخطى الثمانينات بنجاح بات من الصعب إزاحته، نجوم تلك الحقبة تحولت أسماؤهم إلى رمز للفرح والعشق وأغنياتهم سميت بزمن (الأغاني الذهبية).
أغاني خالدة على ضفاف الخليج
بقلم: سهى الوعل
ما زالت هناك أغانٍ خليجية عالقة في ذهن المستمعين كباراً وصغاراً، لم تستطع أي أغانٍ جاءت من بعدها أن تحل مكانها أو تحولها إلى خيار ثانٍ، حيث كانت ولا تزال هذه الأغاني هي المفضلة لدى المستمعين ليسترجعوا أو يعيشوا معها كل لحظة أو حالة حب يمرون بها، ربما لأنها تترجم مشاعرهم بشكل لا تقوى عليه الأغاني الأخرى، وربما لأنها ارتبطت في مخيلتهم بقصص معظمها كان من وحي الخيال، ولذلك يتجاوز عمر بعضها الثلاثين عاماً.
أغنية (ليلة) للفنان الكبير الدكتور عبد الرب إدريس والتي كانت من كلمات الأمير بدر بن عبد المحسن، خلقت حالة خاصة استمرت حتى اليوم تخطت حدود الخليج إلى الوطن العربي، ومن المستحيل أن يحضر الحب فلا تحضر (ليلة)، رغم أنها ليست مرتبطة بقصة، حيث إن كلماتها كُتبت بعدما تم خلق اللحن بالكامل، وفي ليلة واحدة.
الدكتور عبد الرب إدريس وضع لحن الأغنية وتخوف من أن ينساه، فقام بكتابة كلمات ارتجالية ليحافظ على اللحن، إلا أنه وفي لقاء عابر مع المؤلف روى له حكاية اللحن، فانسجم معه على الفور وكتب كلمات الأغنية كاملة في ليلة واحدة فقط، ولم يتوقع كلاهما هذا النجاح الكبير للأغنية الذي حولها مع الوقت إلى أغنية خالدة!
أغنية (قالوا ترى) أيضاً تحولت إلى أغنية خالدة، والسبب ارتباطها بقصة من وحي خيال الجمهور، الذي قال إن عبادي جسد قصة حبه مع زوجته عبر هذه الأغنية، بينما أكدت الفئة الأخرى أن الأمير عبد الرحمن بن مساعد هو من عايش كلمات الأغنية التي كتبها بإحساس صادق وعن تجربة، بينما الحقيقة هي أن القصيدة واحدة من بين العديد من القصائد التي كتبها بن مساعد، ومنحها للجوهر الذي طال به الوقت قبل أن يلحنها، حيث تملكه لاحقاً كلامها التهكمي، مما جعله يصيغ اللحن مترجماً نفس الحالة، بما في ذلك الآهات الشهيرة في الأغنية.
أما أغنية (الأماكن) فارتبطت بالعديد من القصص، حيث أُشيع أنها قصيدة مكونة من أكثر من 300 بيت رثاءً في والدة الشاعر الأصلي للأغنية، بينما قيل إن الشاعر منصور الشادي كتبها، ليعيد بها محمد عبده للساحة بعد فترة ابتعاد قضاها جراء وفاة ابنه عبد الله في حادث سير، ولكن وبرغم أن القصة الحقيقية للقصيدة المجتزأة من مرثية طويلة غير معروفة، إلا أن الأغنية تملكت عواطف الجميع وجسدت أسمى معاني الحب في البعد، وهي حالة لم تقوَ أي أغنية ثانية بعد ذلك على تجسيدها.
راشد الماجد ومن خلال الشاعر الأمير فيصل بن تركي غنى لجيل مختلف تماماً، كان يبحث عن أغنية تشبهه، وتعبر عن مشاعره بكل بساطة، فجاءت أغنية (إنت غير الناس عندي) التي تُعد واحدة من أهم أغنيات راشد الماجد على الإطلاق، حيث جاءت في توقيت كانت تتجه فيه الأغنيات اتجاهاً آخر تماماً، لتخرج بمفردات بسيطة ومعبرة للغاية، يُقال إنها تشبه كاتبها الشاعر الأمير فيصل بن تركي، حيث إنه شخصية حساسة للغاية ومُحبة، وهو ما يتجسد بقوة في صورة علاقته مع عائلته الصغيرة وزوجته وأبنائه وطريقته في الحديث عنهم وعن علاقته بهم.
(دنيا الوله) للفنان عبد الله الرويشد أيضاً أغنية خالدة في ذاكرة الجميع، استطاع من خلالها الشاعر علي مساعد أن يكسر الصورة النمطية لأغاني الفراق، ويحولها لحالة حب جميلة وصعبة وخالية من أي قسوة، بعكس الأغنيات الخليجية في ذلك الوقت والتي كانت تميل للقسوة والقوة، بالإضافة لشخصية علي مساعد القريبة من المستمع الخليجي، والذي يصدق أي كلمة يكتبها ويختلق معها عشرات القصص، بل ويتعاطف معه أيضاً، ولهذا كانت هذه الأغاني من أهم وأذكى تعاونات الرويشد التي يقول عنها أنها من بين أغنياته الأنجح على الإطلاق.
إقرأ أيضاًً: سعد رمضان: تعمدت إخفاء حبيبتي عن الجمهور