كثيراً ما سمعت الشابة الأردنية نور عساف وزوجها أحمد الطوباسي من والديهما وجدودهما المثل الشعبي: (الضربة اللي ما بتقتلك بتقويك)، لكنهما لم يعرفا معنى المثل وتطبيقه حرفياً، حتى تضررا، كغيرهما من الناس، بتأثيرات جائحة فيروس كورونا المستجد «كوفيد 19». تعود قصة نور الموظفة في إحدى مدارس دبي وزوجها المهندس أحمد، المقيمين في الإمارات منذ عدة سنوات، إلى حلمهما بافتتاح مطعم يستطيعان من خلاله، تقديم وجبات طعام مليئة بالحب لزواره، بحيث يشعر من يأكل في المطعم، بأنه يتناول طعامه في بيته، لذا قررا أن يطلقا عليه اسم «حبة بركة»، كونهما مؤمنين بأن البركة في الطعام والصدق بالتعامل سيعودان عليهما بالخير.
أصل الحكاية
أمضت نور وزوجها أحمد عدة شهور في تجهيز المطعم، الذي فتح أبوابه مع بداية عام 2020، لكن حلمهما بدا وكأنه يتلاشى أمام ناظريهما مع تفشي «كوفيد 19»، فلحقهما الضرر الذي بدأ يصيب الجميع في كل أنحاء العالم، يقول أحمد: «عجزنا أمام تأثيرات جائحة كورونا، ومع تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي والحظر اليومي، صار صعباً علينا الاستمرار، لم نكن نعلم ماذا يمكن أن يحدث معنا، خاصة أننا نعتمد على إيرادات المطعم في دفع رواتب العاملين وشراء احتياجاتنا اليومية من متطلبات أساسية ومواد غذائية، لكن كل شيء توقف وبدأنا نشعر بالانهيار التام».
أحلام بالهواء
الأحلام التي خطط لها الزوجان، أصابتها الكورونا في مقتل، وبدا واضحاً أن نور وزوجها عرفا أن حلمهما بامتلاك مطعم يقدم مع وجبات الطعام المحبة والطعم الشهي سيتبخر في الهواء، مع العجز عن دفع رواتب العاملين والإيفاء بالمتطلبات الشهرية للمطعم وللعائلة، لكن نور أصرت على استكمال المشروع، خاصة أن شهر رمضان كان على الأبواب، وكانت منذ افتتاح المطعم متكفلة بتقديم وجبات مجانية للمحتاجين الذين تعرفهم بشكل شخصي، من عائلات فقيرة أو يتامى أو طلاب لا يملكون المال الكافي، وتضيف: «منذ افتتاح المطعم عقدت أنا وأحمد النية على تقديم المساعدة لمن يحتاجها، فلم نكن نرضى أن نبيع وجبات الطعام الباقية من اليوم السابق، لذا كنا نتصدق في آخر اليوم بفائض وجبات الطعام، وعند حلول شهر رمضان، قررنا أن نستكمل مهمتنا في الشهر الفضيل، فقمت بإطلاق مبادرة على مستوى الأقارب والأصدقاء، لتكفل العائلات الفقيرة، ومن تقطعت بهم السبل بسبب الجائحة، وقمنا بتجهيز قائمة للمحتاجين لتوزيع وجبات الإفطار عليهم يومياً». ويزيد أحمد: «كبرت فكرة المبادرة ووجدنا أشخاصاً كثراً تكفلوا بتبني عائلات بعينها، وقمنا بتوزيع الطعام طيلة شهر رمضان، على أن يغلق المطعم أبوابه مع نهاية الشهر الفضيل».
ديون ثقيلة
حلول يوم العيد هو دلالة على الفرح، لكن عند نور وزوجها لم يكن كذلك، إذ كانا يعرفان أن المطعم سيتم إغلاق أبوابه مع حلول العيد، يشرح أحمد: «كلما كان يقترب يوم العيد، كان قلبي ينقبض ضيقاً، إذ كنت أعرف أنني في طريقي لإغلاق المطعم وهو الأمر الذي اتفقت به مع زوجتي نور، رغم علمي الأكيد أنها وافقتني على مضض، لتعلقها الشديد بالمطعم، ولكن كان القرار لصعوبة تحمل أي تكاليف إضافية، فيكفي الديون التي أثقلتنا والتي لم نستطع جراءها دفع أجور العاملين ورواتبهم لعدة أشهر، فمنهم من صبر معنا ومنهم من قاضانا، لكننا كنا معهم يوماً بيوم، وكنا نبقيهم على اطلاع دائم بما وصلت إليه الحال، كما كنا نتقاسم معهم وجبات الطعام».
فكرة طارئة
تحاول نور أن تشرح مشاعرها في آخر أيام شهر رمضان، وتقول: «كان طعم المرارة في حلقي يزيد كلما اقترب شهر رمضان من الانتهاء، لكن في داخلي كان ينمو الأمل، كلما دعوت الله ورجوته، فأنا مؤمنة جداً بنظرية (الكارما) التي تقول إن الخير الذي تقوم به سيعود إليك يوماً ما، لكننا استسلمنا للأمر الواقع، وبدأت في أول يوم عمل رسمي بعد انقضاء إجازة عيد الفطر، إجراءات إغلاق المطعم بشكل نهائي. لكن بعد أسبوع خطرت في ذهني فكرة لا أعرف مصدرها لكنني نفذتها فوراً، حيث كنت أقرأ العديد من الاستفسارات حول المطعم عبر منصات (السوشيال ميديا)، مثل: (نحاول الاتصال بمطعم حبة بركة دون رد؟ وهل سمع أحد عن إغلاق المطعم؟)، فمعظم رواد منصات التواصل الاجتماعي كانوا يشيدون بمذاق وجبات الطعام التي أشرف على طهوها بنفسي، فطرأ لي أن أكتب منشوراً وداعياً على واحدة من أكبر صفحات المطاعم في دولة الإمارات، وأننا قررنا إغلاق المطعم، وكتبت أننا كنا حريصين على تقديم طعام طيب وشهي ومصنوع بحب وبركة، ولم تكن الأرباح أولوية حاكمة لعملنا في مشروع العُمر الذي انتهى كحلم جميل، وأننا لا نستطيع الاستمرار وتحمل الخسائر، لمطعم بحاجة لنفس مادي طويل لتحمل عواقب ما يجري».
دعم معنوي
تتوقف نور عن الحديث وكأنها تسترجع ذكرياتها القريبة بالقول: «كثيرة كانت التعليقات المتأسفة على هذا القرار، وكثيرون مدحوا جودة الطعام الذي كنا نقدمه وتمنوا استمرارنا، ونمت مكاني بعد أن كتبت (البوست) الذي نشرته بعد كتابته فوراً ولم أعد قراءته وكأنه نُقش من القلب مباشرة، لكنني صحوت بعد ساعة لأجد أن الكثير من زوار هذه الصفحات قد ساهموا بنشر الموضوع، وأن إحدى السيدات الجميلات والتي لن أنساها قد قامت بكتابة منشور تطلب فيه الدعم من الجميع، وفعّلت (هاشتاغ) لوقف إغلاق المطعم، كما قام بعض مشاهير (السوشيال ميديا) بنشر (البوست) وطالبوا بشكل كبير بعدم إغلاق المطعم، مع وعود بتقديم الدعم المعنوي والترويج لما نقدمه».
استمرار الحلم
كان ذلك بصيص الأمل للاستمرار والبدء من جديد، بالنسبة لنور والخوف من المجهول بالنسبة لأحمد، الذي قال: «كان يجب وقف النزيف، ولا نستطيع الاستمرار، قلبي يرغب في ابقاء المطعم وعقلي ينصحني بالتوقف». لكن مع كثرة التشجيع الذي وصل لأحمد ونور عبر منصات (السوشيال ميديا)، قررا إعطاء أنفسهم فرصة ثانية، بقرار فتح أبواب المطعم لمدة أسبوع لتجربة الأمر، وبدأ فريق «حبة بركة» العمل بحب وتحدّ وإصرار، على الرغم من شح الموارد المالية، بيقين من نور أن من ينوي الخير فهو بخير، تضيف نور: «نحن الأن في الشهر السادس بعد إعادة الافتتاح، نأمل أن نستمر ليكبر حلمنا أكثر، ونبقى على عهدنا بأننا نقدم طعاماً شهياً مصنوعاً بحب».
إرهاق ممتع
تقول نور عن تلك الأيام: «بدأ الدعم من خلال طلبات جماعية، فلم يكن يتوافر لدينا سائقون، وبدأ الأصحاب والأقارب بعرض خدماتهم لتوصيل الطلبات، والوقوف في المطعم معنا، حيث كنا نقوم بجميع المهام لقلة الأيدي العاملة وكنا، وما زلنا، نشعر بالسعادة رغم الإرهاق. وأذكر أنني في مرة قمت بتوصيل طلبية في سيارتي، والاضطرار بعدها للاصطفاف لعقد اجتماع افتراضي عن بُعد».
يقول أحمد: «كان همي الأكبر دفع مستحقات الموظفين القدامى، وبفضل الله بدأت بتسديد رواتبهم واحداً تلو الآخر». ويوماً بعد يوم، بدأ المطعم يقف على قدميه من جديد، تضيف نور: «نعم لا نزال نُواجه العديد من التحديات، ولكننا سنقوم بكل ما علينا للاستمرار. وهنا نرغب في شكر كل إنسان وقف إلى جانبنا، شكراً من القلب لكل شخص دعمنا وما زال يدعمنا ولو بكلمة. أتمنى ذكر الجميع بالاسم. ونحن اليوم بعد كل ما مرنا به، نجد أن الأمل قد انشق من لحظة يأس، كرسالة من الله عز وجل بأن القادم أجمل وأن لا يأس مع الحياة».
اقرأ أيضاً: «التبرع» عندما تبدأ الحياة من جديد