رمسة عاشة هذه غير عادية تُشبه الغرابة وتغيُّر ملامح حياة الإنسان بلا رجعة التي حلّت بحلول فيروس كورونا أو كوفيد-19، مثل كثيرين غيري أصابني فيروس كورونا وكانت مقدمته حُمّى غيّبتني عن الوعي وطرحتني الفراش وبفضل الله ودعاء من رزقني الله حبّهم، وعلى رأسهم أمي الغالية، شاء الله أن أتعافى. ومثلما الإصابة بكورونا غير عادية الشفاء منها هو كذلك غير عادي ويُشبه اللحظات الأولى لولادة الإنسان مُشتاق لكل شيء ويرغب في استكشاف كل شيء.
أكتب سطوري هذه وأنا برفقة والدتي في رحلة علاجية قصيرة لها بالولايات المتحدة الأميركية، ومنذ لحظة وصولنا كل الأماكن التي اعتدت زيارتها في الماضي وحتى الشوارع والناس لم يعودوا كما اعتدت أن أراهم. وهنا لا أتحدّث عن طباع أو شخصيات الأفراد ولكن عن عالم أصبح لا يستيقظ من دون وضع كمّامته، نعم الكمامة الفعلية على أوجه الناس من جهة، وكمامة التباعد الاجتماعي التي غيّرت خارطة الجلوس في المؤسسات والمقاهي والمطاعم وكل مكان تقريباً. كُلّ ما ذكرته ليس تذمراً ولكن تذكيراً لنفسي ولكل من يقرأ سطوري أن الحياة مُستمرة رُغم أنف كورونا، وكل المطلوب منّا هو إعادة اكتشافها واكتشاف أنفسنا.
زيارة فيروس كورونا ثقيلة الظل وهو بما يُحاط به من هالة إعلامية ومخاوف ترسّخت على مدار سبعة شهور مضت يأتي وكأنه يريد مُصادرة كُل تفاصيل حياة المريض من دون سابق إنذار، ويُعلن كل أجزاء المنزل مناطق محظورة ما عدا غرفة الحجر. أثناء مرضي اشتقت لأمي وخفت عليها لكنني استودعتها بين يدي الرحمن، واشتقت لابنتي وحتى الخطوات البسيطة التي كنت أخطوها من غرفة لغرفة لأصنع قهوتي الصباحية وأتأمل لوحاتي المفضلة في أرجاء المنزل، حتى الخروج في الممر الممتد للحديقة أمام باب المنزل. فالإصابة بكورونا وأي مرض من وزنه تعيد أغلى اللحظات لمكانها الصحيح وتعلّمنا تقدير كل تفصيل مهما كان بسيطاً.
الحمد لله على الشفاء والفرصة الجديدة لاستكشاف الحياة. ما تعلمته من زيارة كورونا هو أن البدايات الجديدة ممكنة كل لحظة بدايات بعد المرض، أو النجاة من حادث، أو الخروج من علاقة لم تنجح أو محطة مهنية انتهت أو أعزّاء غيّبهم القدر وغيرها من قائمة تطول وتتنوع بتنوّع أحوال البشر. نعم البدايات ممكنة وهي ليست مرتبطة بظروف محيطة ولكن بوضوح الرغبة في البدء من جديد داخل قلوبنا.
سافرت خلال جائحة كورونا مرّتين، الأولى للمالديف والثانية هذه لنيويورك، ورغم أنني وكثيرين افتقدنا جسر العبور للطائرة، لكن أريد أن أخبركم أن اشتياقي للممر أمام بيتي خلال المرض فاق شوقي لممر الطائرة. مع إدراكي أن نفس الإنسان تعشق التغيير والتجديد، لكن الأهمّ من أي ممر نسلك الطائرة أم باب البيت هو الرحلة ذاتها وهدفها. فخروجه لأتنفّس للمرة الأولى بعد الشفاء أمام المنزل كان متعة لا توصف توازي أو حتى تفوق المرور للطائرة.
أعلم أن هذه المشاعر ستصبح ذكرى قريباً وذلك لأن الإنسان يعتاد سريعاً، ولكنني بالتأكيد لن أنسى أن الحياة خلقها الله لتستمر رغم أنف أي ظرف، وهي مستمرة اليوم رغم أنف كورونا، وها أنا أكتب سطوري من الطرف الآخر للعالم. فما الظرف أو الموقف الذي تعتقدون أنّه قيّدكم وحد من انطلاقكم وستقررون تجاوزه لتستمر الحياة رغم أنفه؟