يختلف كثيرون حول العديد من الأمور في حياتهم، لكن تبقى هناك ثوابت لا يختلف عليها اثنان، على رأسها الصداقة بكل ما تحمله من قيم الحب والمودة والإيثار، ليبقى الصديق الحقيقي معيناً وسنداً في المسرات والشدائد، ورفيق رحلة الحياة التي يصعب تحمل صدماتها من دون وجوده، لكن مع دخول مواقع التواصل الاجتماعي ضيفاً مرحباً به في حياتنا، اختفت تدريجياً لمة الأصدقاء، وأصبحت «الصداقة بالطلب» عبر سؤال يقول: فلان يرغب في صداقتك هل توافق؟، ووسط زحام الأصدقاء الافتراضيين، تختفي «الصداقة الحقيقية» ويضيع معناها وكل ما تحمله من قيم ومعانٍ إنسانية.
بمناسبة الاحتفال بيوم الصداقة العالمي الذي يصادف 30 يوليو من كل عام، فتحت «زهرة الخليج» نقاشاً مع قراء ومختصين في علم النفس والاجتماع وتطوير الذات حول المعنى الحقيقي للصداقة وأهميتها خاصة وقت الأزمات.
تباعد اجتماعي
«الصديق وقت الضيق»، حكمة تدل على العلاقات القوية بين الأصدقاء.. هكذا بدأت «رولا المزيون»، ربة منزل، كلماتها معبرة عن حبها الشديد وعلاقتها المتينة التي لم تهتز يوماً بصديقات عمرها الثلاث اللائي صحبنها في رحلة الحياة، وكن السند والعون لها.
وتلفت إلى أنها خلال فترة الحجر المنزلي للحد من تفشي كورونا لا تشعر أبداً بأي ضيق أو ملل، لأنهن على تواصل يومي عبر الهاتف، تفضفض لهن عن همومها وتأخذ بمشورتهن في أمور حياتها، مؤكدة أن «الصديق الحقيقي يظهر دائماً وقت الأزمات والتحديات».
وتتفق معها «حصة أحمد»، وتعمل موظفة حكومية، في أن الصديق تتجلى علاقته بقوة مع أصدقائه في وقت الأزمات، منوهة إلى أنها لن تنسى فضل صديقتها المقربة التي هي ابنة عمها أيضاً، التي تبرعت لها بكليتها قبل نحو 10 سنوات وأنقذتها من الموت على الرغم من أن «حصة» رفضت تعريض حياة صديقتها الوحيدة للخطر. وتقول: ردت صديقتي على رفضي بعبارة مؤثرة حين قالت: (على الأقل لو توفاني الله أولاً ساترك لك قطعة مني تنبض داخلك كي تعرفي مدى حبي لك).
وعلى النقيض من ذلك يرى ممدوح بدر، معلم لغة عربية، أن الصداقة بمفهومها القديم لم يعد لها وجود في الواقع، خاصة في ظل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، فقد أصبح الناس في انشغال دائم حتى داخل الأسرة الواحدة بعد أن نسج كل فرد لنفسه شرنقة من الأصدقاء الافتراضيين لتتحول تلك المواقع إلى مواقع للتباعد الاجتماعي.
الطريق الصحيح
من جانبها، تؤكد لميس نايل، مدربة تطوير الذات والتنمية البشرية، أن «اللحظات الجميلة التي قضيناها في طفولتنا مع أصدقاء العمر هي لحظات لا يمكن أن تمحى من الذاكرة، وإذا أردت أن تعرف إذا كان لديك صديق جيد عليك ان تسأل نفسك: ماذا أضاف لي هذا الشخص في حياتي؟ هل أستمتع بالقراءة وأتناقش معه في بعض القصص والروايات ونتشاركها معاً كي تزداد ثقافتنا وتتفتح مداركنا معاً؟ هل أفقد وزني الزائد وأتبع حمية وأحافظ على صحتي الجسدية والنفسية نتيجة وجوده في حياتي ودعمه وتشجيعه لي؟ هل ساعدني على حفظ آية من كتاب الله؟ إذا كانت الإجابة بنعم فأنت مع صديقك على الطريق الصحيح.
وتضيف نايل: أكدت دراسات علمية أجريت في جامعة هارفارد البريطانية عن الصداقة وأهميتها أن «علاقات الصداقة المبنية على أسس قوية تسهم في تعزيز صحة الدماغ، وتعزيز الصحة النفسية إذ إن هناك بعض الهرمونات مثل الدوبامين المسؤول عن سعادة الإنسان يفرز بشكل أكبر بوجود الأصدقاء الحقيقيين في حياتنا، كما أن جلسة الأصدقاء وسرد القصص المسلية والحكايات الممتعة تسهم في تحفيز إفراز هرمون الأندروفين المسؤول عن تسكين الآلام العضوية في الجسد».
روح واحدة
اختيار الأصدقاء لا بد أن تحكمه ضوابط عدة، حسب الدكتورة ريهام الحيدري، استشاري العلاقات الأسرية، أهمها التكافؤ في المستوى الاجتماعي والتقارب في العمر وحسن السمعة، فالصديق الحقيقي هو من تستطيع أن تكون معه شخصاً يتمتع بالثقة فلا تتكلف في الحديث لأنه سوف يفهم ما بداخلك إذ إنه أقرب شخص إلى طبعك وطريقة تفكيرك، فأنتما معاً كالروح الواحدة في جسدين.
وتتابع: يظهر الصديق الحقيقي عند التحديات والأزمات فيقترب منك أكثر ويأخذ بيدك إلى الأعلى حينما يتخلى عنك الآخرون، فهو مثل الجوهرة التي تزداد قيمتها كلما مر عليها الزمن، مؤكدة صدق مقولة «المرء يتعافى بأصدقائه».
الصداقة الافتراضية
من جهتها، تقول موزة توفيق الظاهري، الخبيرة في الشؤون التربوية والأسرية ورئيسة لجنة حقوق الطفل في المركز العربي الأوروبي: أصبحت الصداقة الآن محصورة عبر العالم الافتراضي الباهت الذي لا يستطيع في كثير من الأحيان إيصال مشاعرنا الحقيقية والذي لا يمكن له أن يكون عوضاً عن الصداقة الواقعية، والتي كنا نعيش فصولها ما بين ضحكات عالية ولغة تواصل يترجمها الجسد والعقل والروح معاً فتبقى مختزلة في الذاكرة بلحظاتها التي لا يمحوها الزمن.
وتضيف: تلك الصداقة التي يترجمها دعم صديق لك حينما تمرض ليمسك يديك من دون خوف من أن تصيبه بمرضك، أو أن يضع قبله على رأسك، وفي الجانب الآخر هناك لحظات فرح امتزجت بازدحام المكان وبث روح الفرح والمشاركة المتبادلة بين الأصدقاء لكي تزداد الروابط والعلاقات فتصبح في قوتها. وتؤكد ضرورة توفير دعم نفسي كبير للوصول إلى لاستقرار النفسي لأفراد المجتمع من أجل بث الطمأنينة والعمل على تحقيق الأمان والاتزان النفسي. ولا يتحقق ذلك إلا بوجود الصديق الحقيقي وليس الافتراضي في حياة كل منا.