يتحدثون عن (العزلة) كثيراً هذه الأيام عبر وسائل ( التواصل ) الاجتماعي، تلك الكلمة استقرت زمناً في ذهني بوقع سحريّ صوفي وكدلالة بحث روحي تنسّكيّ، وكطريق قديم سلكه الأنبياء والفلاسفة، وكاختيار شخصي ُحرّ لسماوات الصمت والتقصي عن الذات والوجود والانقطاع في الغابات والأكواخ والكهوف والصّحارى، الانقطاع الصارم والحثيث لنيل درجات الترقي في المدارات البعيدة .
تلك الكلمة ( العزلة ).. كم صارت الآن مبتذلة، في انزياحها الدلاليّ الجديد!
تأبى العزلة الذوبان مع التواصل، فمن الناحية الشخصية لدى كل منا حالة تواصل وتشارك أسريّ عائلي داخل نطاق البيت، بل إن العائلة اقتربت من بعضها أكثر حين أُلزمت بالجلوس في البيت وفق تدابير الحجر الصحي المفروض على العالم، لقد كان بإمكاننا أن نحقق فعل العزلة وفق مفهومها الصحيح ما قبل زمن الكورونا، إذ كانت الأجواء على سعتها وصحتها تسمح لنا بالسفر والنأي والتوحد قليلاً لغرض إنتاجي وتفرغ إبداعي أو ممارسة صمت تأملي.
ناهينا عن التلاقي الكوني، فنحن متصلون بالعالم عبر الفضاء والأقمار الصناعية والشاشات ووسائل الإعلام، مدركون ما يحدث من مستجدات على كافة الأصعدة، نتداول الحوار والنقاش والفضفضات بوسائل التواصل الاجتماعي. فأين هي العزلة؟
من الحريّ بنا أن ندقق قليلاً عند استعارة المفردات، (العزلة) مفردة متعددة الإحالات، قوامها الانقطاع المطلق، و أعلاها شأناً في المعنى تلك المتعالقة مع نخبة من الناس اتصفوا بقوة القرار و (ارتضوا) لأنفسهم الانقطاع الكليّ عن العالم، لأجل العودة إليه بعد زمن كفيل بتحقق العالم الداخليّ الأكبر. أتمنى ألا نتكلّف في استخدام هذه المفردة ونلتفت سريعاً لمصطلح آخر يحاكي حالة الحبسة الصحيّة هذه، إن الحماس الشديد في استغلال بعض المفردات ذات الثقل الرمزي قد يُسطّحها ويُنزع عنها جوهر المعنى الداخلي، وينتهي ذلك الانزياح المتسارع إلى اليقين الزائف بانسجام المفردة مع واقع الحال. ولا يخفى عنا أن المفردة الواحدة في اللغة تحوي طاقة حساسة هائلة في دفع الدّقة إلى المعنى المراد التعبير عنه، لذا يجب على الأديب على الوجه الأخص بما أنه المنتمي مباشرة إلى حقل اللغة والمتبضع السرمدي منها، أن يعي تماماً حساسية المفردة و ينقيها من الحمولات الدلالية المغلوطة وشوائب المعاني المتنافرة. لذا من الأنسب الاستعاضة بما يناسب الحال، كأن نقول حجر صحي، حبسة وقائية، خلوة اضطرارية، أو إفراد احترازي .