هناك بلا شك مساحة بين قيمة الحدث الوطني وأسلوب التعبير. ليس بالضرورة أن تخلق الأحداث العظيمة مباشرة إبداعاً عظيماً. مساء الأربعاء الماضي، حان موعدنا في "مهرجان كان" مع الأفلام العربية التي تناولت الثورتين المصرية والتونسية. عرض الفيلم التسجيلي التونسي الطويل "لا خوف بعد اليوم". لم يحمل العمل سوى تكرار ممل لدوافع الثورة العظيمة التي فجرها الشباب التونسي لتتحول إلى ثورات مضيئة تنتقل إلى عالمنا العربي، محمّلةً بعطر ثورة الياسمين.
بل إن النداءات التي رأيناها تتكرر في كل الثورات العربية، انطلقت أولاً من تونس مثل "سلمية" و"الشعب يريد إسقاط النظام"، و"ارحل".
كما أن أسلوب الشرطة في قهر الناس بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي والضرب والسحل تتكرر. أكثر من ذلك، فإن محاولة الالتفاف التي مارسها بن علي ثم مبارك على مطالب الجماهير وأسلوب الاستعطاف الذي لجأ إليه الاثنان... كل ذلك رأيناه مع كل رئيس عربي يحاول استرضاء الجماهير الغاضبة. الغريب أنّ الفيلم التونسي التسجيلي الطويل الذي أخرجه مراد الشيخ لم يستطع الاقتراب من روح الثورة النبيلة. وأغلب الأفلام القصيرة المصرية التي اشتركت في تلك الاحتفالية تحت اسم "18 يوم" رأيت فيها أيضاً نفس المأزق وهي أنّها لم ترقَ إلى مستوى الحدث العظيم.
بل أتصورها لعبت دوراً عكسياً: لقد سرقت الكثير من البهجة التي عشناها جميعاً أثناء الثورة!!
الاختلاف الوحيد بين ما حدث في مصر وتونس هو أنّه في تونس لم يعترض أحد على اختيار الفيلم للعرض في "كان"، بينما في مصر استمعنا إلى العديد من الأصوات الغاضبة التي سبقت عرض الفيلم بأكثر من أسبوعين، ووصلت نيران الاحتجاج إلى مهرجان "كان". وكانت ملامح الرفض تبدو على عدد كبير من المخرجين وأيضاً بعض النجوم.
كل ذلك لأنّ هناك إحساساً بأن هناك من قفز على الثورة، وأراد تقديم نفسه باعتباره الثوري رغم أنه كان الأقرب إلى عهد وزمن وعائلة مبارك، بل استفاد مادياً وأدبياً من هذا الاقتراب.
ورغم ذلك، فإن المقياس الفني كان بالنسبة إليّ هو المعيار الأهم. ونحيت جانباً خلال التقييم المواقف السياسية المؤيدة للنظام البائد لعدد من المشاركين في هذه الأفلام.
والغريب أن أكثر مخرجين تعرضا لهجوم مباشر قبل عرض الأفلام كانا شريف عرفة ومروان حامد لأنهما شاركا في إخراج الأفلام الدعائية لمبارك، ثم قدما رغم ذلك أسوأ فيلمين ضمن الأفلام القصيرة العشرة التي عرضت تحت عنوان "18 يوم". الفيلم الأول "احتباس" لعرفة لا يحمل أي لمحة أو وهج فني. يقدم العمل مجموعة من المرضى النفسيين في
المستشفى. كل منهم يعبر عن موقف فكري مختلف كأنهم صاروا بمثابة بانوراما لما يجري في الحياة خارج حدود هذه الغرفة.
تصل إليهم أحداث الثورة عن طريق جهاز التلفزيون الذي يقدم لمحات مما كان يجري في مصر حتى تأتي النهاية مع إعلان تنحي مبارك. كما أن إدارة المستشفى تغيّر قواعدها في التعامل مع المرضى بعد الثورة. أفتقد في هذا الفيلم روح شريف عرفة كما عودنا في أفلامه الطويلة. جاء فيلمه القصير هذه المرة خالياً من أي نبض فني!!
"19-19" للمخرج مروان حامد الذي يقدم لحظات من حياة معتقل سياسي، يمكن أن تجد في ملامحه بقايا من كل الأعمال الفنية التي تناولت المعتقلين السياسيين في الأفلام القديمة التي قدمت هذه القضية المزمنة في عالمنا العربي وهي علاقة السلطة بالمواطنين، وكيف تقهرهم بسبب وشايات الشك. في فيلم "داخلي خارجي" للمخرج يسري نصر الله، نرى زوجين (آسر ياسين ومنى زكي)، حيث الزوج يرفض أن تشارك زوجته في التظاهرات. وينتهي الأمر بأن تذهب رغماً عنه ويشاركها هو في الهتاف ضد مبارك. أقحم نصر الله مشهداً ليسرا تعلن فيه انتماءها للثورة ودفاعها عنها وعن الشهداء. ولم أجد سوى أنهّ مشهد مقحم قد يرضي يسرا التي تريد أن تقدم رسالة تنفي فيها ارتباطها بالنظام القديم، لكنّه بالتأكيد لا يحمل أي قيمة إبداعية، وكان من الممكن درامياً أن يحذف!!
وهناك أفلام مثل "حظر التجول" لشريف البنداري أراه معادياً لروح الثورة لأنه يتناول علاقة الجيش والمقاومة الشعبية بالمواطنين. إذ قدم المخرج وجهة نظر سلبية لتلك العلاقة بعدما لجأ إلى أسلوب التكرار لخلق الضحك، لكنه أخفق في تحقيق ذلك. فيلم "لما يجيلك الطوفان" لمحمد علي قدم الوجه السلبي لمن يشارك في التظاهر. فهو مستعد أن يرفع صورة مبارك لو أنه يبيع بها العلم، ومستعد أيضاً أن يرفع صورة الثورة لو أنه يبيع بالثورة. ورغم كونها حالة حقيقية عرفناها جميعاً، إلا أنّني أرى التوقيت خاطئاً، فلا ينبغي ونحن نحتفل بالثورة في أول تظاهرة أن نقدم هذا الوجه على الأقل الآن. فيلم" شباك" لأحمد عبد الله يمر كأن شيئاً أو فيلماً لم يكن!!
ويبقى لدينا ثلاثة أفلام حملت قدراً من الإبداع مثل "كعك التحرير" من إخراج خالد مرعي، وبطولة أحمد حلمي الذي يؤدي دور بائع يخشى أن يغادر دكانه خوفاً على نفسه من المتظاهرين. بل إنه يخشى حتى أن يسجل على شريط كاسيت ما يشعر به لأنّ الشريط كانت عليه خطبة لمبارك وهو لا يستطيع أن يمحو صوته. إلا أنه في النهاية ومع ازدياد قوة
التظاهر، يخرج من دكانه من دون أن يدرك أنّه يرتدي بدلة أمين شرطة تركها لديه، مما يعرضه لاعتداء المتظاهرين.
ويترك المخرج النهاية مفتوحة. فيلم آخر لمريم أبو عوف عنوانه "تحرير 2ـ2" عن زوجين، حيث الرجل (آسر ياسين) يشارك في المظاهرة لمن يدفع أكثر. ولهذا يذهب إلى ميدان مصطفى محمود لتأييد مبارك لأن هناك من يدفع. إلا أنه يكتشف أن في داخله روح النضال، فينضم هو وزوجته (هند صبري) إلى الثوار. أما أفضل الأفلام فهو "خلقة ربنا" لكاملة أبو ذكرى عن فتاة صغيرة تبيع المياه المعدنية للناس وتكسب بالقروش الضئيلة قوت يومها. وأمنيتها أن تغير لون شعرها إلى الأشقر. ثم تنزل إلى الميدان لبيع بضاعتها. وهناك تكتشف أنّه ينبغي أن تهتف لمصر وتستشهد وهي تهتف لمصر أيضاً. وهناك الفيلم الأخير الذي حمل عنوان "ابراهيم سبرتو" لأحمد علاء حيث يتحول الحلاق الذي يقع دكانه في وسط البلد إلى طبيب بل جراح لمساعدة المصابين أثناء التظاهر. الفيلمان الأخيران هما بلا شك الأفضل بين كل الأفلام!!
هل وصلت هذه الأفلام إلى التعبير عن قيمة الثورتين العربيتين؟ إجابتي هي لا. هل كان ضيق الوقت هو السبب أم أن خيال المبدعين كان قاصراً لم يصل إلى روح الثورة؟ مع الأسف الثانية هي الحقيقة المؤكدة وهي أنهم لم يستوعبوا بعد روح الثورة. وما زلتُ أنتظر فيلماً عربياً تسجيلياً أو روائياً أجد فيه روح الثورة العربية التي مع الأسف لم ألمحها في الأفلام التي عرضت في "كان"!