أمسكت بهاتفي طويلاً. كنت أريده أن يتصل بي. كنت مشتاقةً جداً أن يتصل وأستمع لصوته الجميل.
لا أبالغ. "توفيق" كان رجلاً مثالياً ورجل الأحلام لكل فتاةٍ تقابله لأنّ الله وهبه كل الأسباب التي تجعله رجلاً "دنجواناً": طبيب أسنان، جميل المظهر، باسم وضحوك، ذو شخصية ساحرة تُضحك الجميع مهما كان يومهم سيئاً. وقد كان صوته يطابق كل ذلك. صوت رخيم أجش ذو نغمةٍ رنانةٍ يمكن أن يصبح بها مذيعاً مشهوراً في أي إذاعةٍ.


كان قد مضى فعلياً على علاقتي بـ "توفيق" تسعة أشهر. كنت أعده رجلاً مهماً جداً، ولا أصنفه تحت أي علاقةٍ كانت. لكنني كنت متعلقةً به بشكلٍ مذهل، مستخدمةً كل الوسائل الإلكترونية الممكنة كي أتواصل معه. لا أدري لماذا يبدو التواصل بالبريد الإلكتروني أو برامج المحادثة أو حتى مواقع التواصل الاجتماعي أقل رهبةً من الهاتف!


لم أتحدث مع توفيق إلا ثلاث مكالمات خلال ثلاثة أرباع عام. وقد كانت البداية الحقيقية حين بدأ هو العمل، وأرادت أختي الصغرى أن تزور طبيب أسنان. وحينها، اقترحت عليّ "لينا" زيارة "توفيق" في عيادته الخاصة التي سيفتتحها في شباط (فبراير) بعدما أنهى تدريبه، وأن يقدّم لي حسماً.
كان قد مضى وقت طويل لم أره. لذلك، وافقت حين أعطتني رقم هاتفه النقال، فأخذت الرقم سريعاً واتصلت فوراً من دون أن يكون لدي أدنى شك أنّه سيذكرني.


الحق أنّ "توفيق" كان رجلاً لا ينسى أي أنثى قابلها على الإطلاق.


- ألو؟
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
- د. توفيق كيف حالك؟
- صمت. قال الحمد لله.
- قلت له: أنا سارا. هل تذكرني. سارا الـ..
- قاطعني فوراً: بالطبع يا سارا وهل يخفى القمر؟ أذكرك لأكثر من سببٍ وأهمها أنّ العروسة الجديدة لينا هي صديقتنا المشتركة.
- أريد ترتيب موعد معكَ في العيادة من أجل أسنان أختي. والحقيقة أنني أريد سعراً خاصاً.
- الآن، سأجعل السكرتيرة تحدثكِ، وبالنسبة إلى الأسعار، يكفيني أنكِ أخترتِ أن تأتي بأختك عندي يا سارا. في المناسبة، أعطني بريدك الإلكتروني حيث نتعامل هنا غالباً به وسأعطيه للسكرتيرة التي سترتب لكِ موعداً. اتفقنا؟
- شكراً لك يا دكتور توفيق.
- لطفاً سارا. أيمكنك مناداتي بتوفيق فقط؟
- إلى اللقاء يا دكتور.


أغلقتُ السماعة وأنا قلبي يدق كثيراً. لديه أسلوب قاتل في الحديث مع النساء لا أستطيع أن أصفه.
بعكسك أنتَ يا "عادل"، فيك هدوء وطمأنينة عادية جداً جذبتني. أنتما النقيضان على طرفي مغناطيس قلبي. أنت الموجب وهو السالب، وأنا لا تاريخ فيزيائياً يجمعني بكما.
وبقيت كل اليوم أفكر في تفاصيل المكالمة وطريقته في الالتفاف بالكلام الجذاب من دون أن يسرق وقتاً إضافياً، إلى أن فتحت بريدي الإلكتروني، فوجدت الموعد وقد تم ترتيبه. ثم وجدت منه إضافةً في البريد الإلكتروني وبرنامج المحادثة، وفي مواقع التواصل الاجتماعي. ولا أدري لماذا وافقت على كل شيء.


في يوم الموعد، وقفت أمام المرآة مطولاً: ترى هل كان توفيق يقصد كل ذلك الاهتمام فعلاً بي؟
جهزت قلم الكحل جيداً ورسمت به خطاً دقيقاً داخل عينيّ الواسعتين اللتين يعدّهما من حولي أجمل ملامحي. ثم وضعت طبقتين على رموشي من تلك الأنبوبة السوداء التي تحيل رموش النساء قاتلةً. وتركت وجنتيّ بلا حمرة لأنني كنت أكره ذلك المظهر الاحتفالي عند الذهاب إلى العيادات. وجعلت شفتيّ عاريتين من الألوان تماماً أيضاً. واخترت حذاءً عالياً مع عباءةٍ سوداء.


عندما وصلنا، احتفل بنا في عيادته التي كانت شبه خالية. وقد أخافني ذلك كثيراً.
أقترب مني وقال لي مع ابتسامةٍ كاملةٍ: مرحباً بكِ يا سارا.
جلس يتحدث مع أختي الصغرى كثيراً ثم بدأ العمل على أسنانها
بين حينٍ وآخر، كان يرفع رأسه وينظر إليّ ثم يبتسم. وقد كنت متوترة فعلاً، إلى درجة أنني لم ألمس كوب العصير الذي قدمه لي على الإطلاق. هناك شيء ما مريب في ذلك. "التوفيق" تدركه كل فتاة تجالسه ولو لدقائق!
بعد ذلك، سحب كرسياً داعياً الممرضة لإنهاء الجلسة وإكمال بقية العمل وجلس عليه إلى جانبي تماماً. الأمر الذي أذهلني وبدا ذلك على وجهي بالفعل.


- يبدو أنني اقتربت أكثر من اللازم؟
- أكثر بكثير.
- سحب الكرسي قليلاً إلى الخلف وقال: والآن؟
- قلت له وأنا أبعد نظري عنه: لا بأس.
- قال وهو يحدق في عينيّ: ما رأيك في عيادتي؟
- جميلة ولطيفة. ربما ينقصها...
- قال هامساً بعدما وضع يديه تحت ذقنه: أنثى. ينقصها أنثى حقيقية تزورها وتشعل فيها النشاط كل يوم بدلاً عن تلك الممرضة الآسيوية الكئيبة.
- ضحكت وخفضتُ رأسي وقلت: ما أكثر النساء. اذهب لأي واحدةٍ من زميلات التمريض ولن تتردد!
- ومن قال إنّني أريد ممرضة. أريد طبيبة تعالج العيادة بلمساتها.
- فضحكت وقلت: هن أيضاً كثيرات.
- لكنهن بوجهٍ جامدٍ، ليست فيه مسحة حياء ولا شعر بني ناعم يمكنه تخدير ألم المرضى.


بدأت وقتها حقاً بالتعرق، فنهضت مسرعة ورفعت الهاتف واتصلت بالسائق وطلبت أن يأتي فوراً.
فأنبني قائلاً: لم أنتهِ من أختك بعد!
قلت له أن يؤجل ذلك لزيارةٍ قادمةٍ وابتسمت سريعاً وأخذتها وخرجت. وحين اقتربت من السيارة، قالت لي أختي: سارا. خصلات شعرك من الخلف في كل مكانٍ!
تحسست رأسي فوجدت أنّ شعري قد انسدل وتزحزح وانزلقت خصلاته الطويلة إلى منتصف ظهري.
حينها علمت سر كلامه، وقرصت نفسي قرصةً خفيفةً مع ابتسامة.
فقد كان يقصد مغازلتي بكل الطرق... ذلك الـ "توفيق".
خلال الزيارة اللاحقة، تركت والدتي تأخذ أختي الصغرى لأنّني كنت أجد في عيني توفيق رغبةً في غوايتي.
لا حبّي أو عشقي. ولذلك كنت أبتعد.
ما لم أكن أعلمه حقاً أنّ "توفيق" كان سيرتبط حينها، أو أنه مرتبط اسمياً من فتاةٍ بعد علاقة أعوام.
بعدها، اتصل بي توفيق مرتين بحجة السؤال عن أحوال أختي الصغرى. وفي كل مرة كنت أتماسك وأنهي المكالمة بعد نصف ساعة فقط.


إلا أنني سقطت صريعة حقاً، فقد كنت كلما سرحت شعري، أتحسّس خصلاته الطويلة وأذكر كلماته عن الغزل بشعري. وهو الأمر الذي لم يحدث لي سابقاً.
في كل مرة كنتُ أتأنق وأصفّف شعري إلى الوراء أو تنزلق خصلاته الناعمة على وجهي، أذكر ترديده لي: شعر بني ناعم يخدّر المرضى.
فأشعر بزهو الأنثى الأجمل في العالم.


وأخيراً بعث لي رسالةً على الهاتف وكتب فيها: كنت أقصد بعيادتي، قلبي يا سارا.
وقد ذهلت، لم أكن فتاةً أعي ما يقصده الرجال حين يغازلون الفتيات. وهو الأمر الذي أحببته بك يا "عادل" لأنك لم تغازلني قط حتى بعدما أحببتني.
كان "توفيق" رجلاً لعوباً جداً. يريد أن يعلّق أي أنثى على قارعة الطريق. وكانت على من تختاره زوجاً أن تعلم ذلك. ولم أكن في أي حال تلك الفتاة.
ومع ذلك، فإنني اليوم وبعد تسعة أشهر من الحديث معه على الحاسوب، أصبحت متعلقةً به.
كان في البداية يبحث عني في كل مكانٍ، وفي كل ركنٍ، وعندما أغيب يفتقدني.
كان يحاول جاهداً أن يسحبني إلى وحلٍ من الحب والعشق بتبادل مكالمة غرامية طويلة، أو رسالة عشق رخيصة كالتي يتبادلها بعض العشاق، لكنني لم أبادله ولم أهده، ولذلك ربما أنهى كل شيء بضربةٍ واحدةٍ.
لذلك ربما انزعج، لم نتحدث يوماً كأحباء أو عاشقين. كان مجرد عشق في السماء لم يكتب له القدر كي ينزل إلى الأرض.
كان يغازلني بكلماتٍ عائمةٍ على وجه الأناقة وكنت أصدّه كل مرةٍ بأسلوبٍ لطيفٍ.
كان يمطرني بكلماتٍ راقصةٍ تعشقها النساء، وكنتُ أحب هذه الكلمات لكنني لا أتجاوب معه خارج إطار الحاسوب.
كان يحفزني كي أتصل به، فلم أتصل.
إلى أن تعلقت به حقاً ويومها فقط... بعد الأشهر التسعة فقط، رفعت الهاتف وحدثته لأنني أردت أن أسمع صوته، وقد شعرت به منتصراً للغاية ومنتشياً حد الموت.


- كيف أحوالك؟
- لا بأس، أين أنت؟
- أين أنا؟ بل أين أنت؟
- أنا هنا، لكن الأمر لم يعد كما كان يا "سارا" سابقاً. فأنا مرتبط وأريد الحديث معكِ لكن في أوقاتٍ معينةٍ.


صمت طويلاً، لا أدري كيف أغلقت الهاتف في وجهه من دون أن أشعر. هكذا ببساطة أنهيت العلاقة معه أو هو أنهى العلاقة معي. وأعتقد أن "توفيق" أراد أن يكفر عن ذنوبه كلها مع النساء عبر تجنّب اللعب على قلب فتاةٍ طاهرة وأن يخلص لزوجته أخيراً.
لقد كان في نظري لحظتها حقيراً وتافهاً ورجلاً لعوباً. ومع ذلك كنت أنتظر كل يومٍ أن يتصل بي.
كنت أبحث في كل مكانٍ عن كذبةٍ تفضح الحقيقة، كنت أعتقد أنه كان يمازحني ولم يكن جاداً.
كنت أخجل أن أحدث لينا، لأنها قالت لي سابقاً إنّ توفيق رجل لعوب. وأنا كسرت هذه القاعدة بتركه يتلاعب بمشاعري بعدما رميتها له على قارعة الطريق. ومن يعطي المتسول الجائع طعاماً ويطلب منه ألا يسرقه، شخص يكذب حتى على نفسه!


اختفى بعدها توفيق، اختفى وذاب كأنه لم يكن
ووقتها تعلمت أقسى درس في الحياة،
أن من يذهب لا يعود أبداً. وحتى إن عاد، فإنه يعود في وقتٍ نكون لا نحتاجه فيه حقاً.


(الخميس 6 أيلول/ سبتمبر 2009)