طارق الشناوي: سوسن بدر... بئر لم نأخذ منها إلا رشفات!
عندما وقعت عين المخرج الكبير صاحب تحفة "المومياء" شادي عبد السلام عليها قبل نحو ثلاثة عقود، كان بصدد الإعداد لفيلمه الروائي الثاني "اخناتون". ملامح سوسن الفرعونية استوقفت عين شادي لكنّه رحل عن عالمنا ولم يُقدم فيلمه فيما ظلّت تلك الفنانة السمراء تملأ الدنيا إبداعاً.
سوسن هي بئر فنية لا تنضب لكنّها تترك نفسها لأي عابر سبيل سواء أكان موهوباً أم موهوماً يضيف إليها أم فقط يأخذ منها. إنّها نموذج صارخ للفنان عميق الموهبة عندما لا يمتلك "ترمومتر" الاختيار ويترك رياح الفن تعصف به هنا وهناك من دون أن يُمسك بيديه المجداف. ورغم ذلك، فإنك تجد نفسك في النهاية أمام فنانة نادرة في موهبتها حتى لو بددت جزءاً منها في أعمال فنية متواضعة. ما أنجزته وما ينتظرها يستحق التكريم، وقبل ذلك التأمل.
في ختام "مهرجان أبو ظبي"، تُمنح سوسن "جائزة إنجاز العمر". بالتأكيد، لا تجد ملامح سوسن في ظلال العنوان. تراها واضحة في الفنانة الإيطالية الكبيرة كلوديا كاردينالي شريكتها في الجائزة لأنّ مدلولها يعني أنّ صفحات الكتاب قد اكتملت أو على أقل تقدير في طريقها لبلوغ الغلاف الأخير، بينما لا يزال أمام سوسن متسع من الصفحات لم تكتبها بعد.
يأتي تكريم سوسن يوم الجمعة المقبل لنستعيد معاً قراءة تلك الفنانة الرائعة الاستثنائية.
القطة لها سبع أرواح. أما سوسن بدر فلها دائماً مع كل رمضان 8 أرواح أقصد ثمانية أدوار. هل من الممكن أن يتحمّل المشاهد رؤية ممثل في سبعة مسلسلات مختلفة مهما بلغت موهبته؟ هل يملك أي ممثل مهما بلغت إمكاناته القدرة على التقمص الوجداني لكل هذا العدد من الشخصيات في فترة زمنية محددة جداً؟ المؤكد أنّه كان على سوسن أن تصوّر ستة أعمال من بين السبعة المعروضة عليها سنوياً في الوقت نفسه، وعلى الأقل عليها أن تخرج من شخصية لتلحق بأخرى... فهل تستطيع أن تمسك بتفاصيل كل شخصية على المستوى الشكلي والنفسي؟!
ليس الممثل كالحرفي والنجار أو الحداد أو "المكوجي" مع كل الاحترام لأصحاب هذه المهن. يعتقد البعض أنّ لحظة الوقوف أمام الكاميرا هي فقط زمن التمثيل مثل لحظة الوقوف أمام المكواة، ووضعها على القميص هو فقط زمن الكي!
الممثل ينبغي أن يتعايش مع الدور قبل الوقوف أمام الكاميرا وبعده. وقد يحدث بسبب تلك المعايشة نوع من التوحد مع هذه الحالة. مثلاً كنّا نرى أحمد زكي يعاني من مشكلات صحية في الأمعاء أثناء أدائه فيلم "زوجة رجل مهم". يومها، قال له الطبيب إنّه قد حدث تعايش مع الشخصية، ما أدّى إلى معاناته الصحية لتتوافق مع معاناة الشخصية الدرامية. سوسن فنانة حقيقية لا أتصوّرها من هؤلاء "الصنايعية" أصحاب "الزراير" تضغط عليها وتتحرك وفقاً لآلية محددة تقدم "الشويتين" مما تعرفه كأنّها شخصيات سابقة التجهيز الدرامي. إنها فنانة تتعايش مع الشخصيات لكن ينقصها العقل المنظم الذي يضعها في مكانة تستحقها. ويبدو لي أنّ سوسن بدر من الفنانين الذين يخشون الزمن القادم. هي بالتأكيد عايشت عدداً من الزملاء. وعندما يمضي بهم قطار العمر، يتضاءل تواجدهم عبر الشاشة. وربما رأت هذا المصير مع بعض كبار الزملاء ولهذا تعيش اليوم وهي تخاف الغد فتوافق على كل الأدوار التي تعرض عليها. أرى أنّ مأزق سوسن هو أنّها لا تملك فن إدارة الموهبة. مثلاً قدمت دوراً لا ينسى في فيلمها "الأبواب المغلقة" قبل نحو 10 سنوات، هذا الدور يحتفي به أيضاً "مهرجان أبو ظبي" في إطار تكريمه لسوسن. لعلّها من المرات القليلة التي طرقت فيها البطولة باب سوسن لكنّها كالعادة لم تعرف كيف تحافظ عليها. ولهذا تجدها تشارك في أدوار أخرى فقط لأنّها تريد أن تظل على الخريطة. هل حقاً سوسن لها سبع أرواح؟ لا أتصورها كذلك، فهي فنانة مبدعة يكفيها دور واحد وروح واحدة تتقمّصها لتعيش كأنّها تقدّم سبعة أدوار أقصد سبع أرواح!
تكريم "مهرجان أبو ظبي" لتلك الفنانة الاستثنائية هو ما تستحقه تماماً. ربما يدعوها ذلك كي تختار من بين الكثير الذي يعرض عليها، القليل الذي يعيش مع الزمن!