في "مهرجان دبي"... حبّ يعبر حواجز الزمن!
ما هي أكثر التيمات الدرامية التي نراها في الأعمال الفنية وعبر التاريخ؟ لو ألقيت نظرة عين الطائر على الأدب والمسرح، ستكتشف أنّ الحب شكّل القسط الوافر من مواضيع الفنون من الشعر، والموسيقى، والغناء إلى المسرح والرواية. إلا أنّ الحب مرتبط دوماً بمرحلة الشباب حين تتأجج العواطف ولا يمكن كبح جماحها، فتتخطى الحواجز الاجتماعية والاقتصادية والعرقية. وهكذا خُلدت في التاريخ الفني الآلاف منها. لكنّ الدورة الأخيرة من مهرجان "كان" أثبتت أنّ الحب مثل الصاروخ عابر المحيطات. إنّه أيضاً عابر لحواجز السنين. فيلم "حبّ" الذي اقتنص جائزة السعفة الذهبية لأفضل فيلم في المهرجان الفرنسي، افتتح به "مهرجان دبي السينمائي الدولي" أخيراً دورته التاسعة في قسم "سينما العالم" الذي يقتنص أهم الأعمال المنتجة في العالم.
تنافس على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان "كان" 22 فيلماً داخل المسابقة الرسمية، لكنّ الجائزة كانت من نصيب "حب". أما عمر الحبيبين، فقد تجاوز الثمانين. وتستطيع أن تعتبر أنّ هذا النوع من الحبّ أفضى إلى قتل على طريقة "ضرب أفضى إلى موت".
وقبل أن أقدم لكم تفاصيل الفيلم، أذكر فقط أنه في مهرجان "كان"، نادراً ما توافقت آراء لجنة التحكيم التي ترأسها المخرج الإيطالي ناني موريتي مع آراء أغلب النقاد في المجلات الفنية التي تصاحب المهرجان بالرصد والتحليل. لكنّ ناني موريتي منح درجات للأفلام المشاركة، وحظي فيلم "حبّ" للمخرج النمساوي الشهير مايكل هانيكي بجائزة أفضل فيلم من خلال تقييم النقاد وأيضاً لجنة التحكيم.
الحبّ لا يعترف بالسنين وهكذا عشنا مع بطلي الفيلم اللذين تجاوزا الثمانين وهما في حالة امتزاج عاطفي، زادته السنون عمقاً.
يبدأ الفيلم برجال الشرطة وهم يقتحمون منزلاً ويضعون كمامات على وجوههم بسبب رائحة تنبعث من المكان دلالة على مرور بضعة أيام على وقوع الجريمة. ونكتشف جثة امرأة عجوز ملقاة على السرير وحولها الزهور.
اللقطة الثانية في المسرح تبدو "كفلاش باك" وعودة إلى الماضي حيث كان الزوجان الحبيبان يحضران حفلاً موسيقياً. ونعود بعد ذلك إلى الموقع الرئيس للأحداث والكاميرا لا تغادر البيت. نظل داخل هذا المكان الضيق والكلاسيكي في ملامحه نتابع تلك العلاقة بين الحبيبين. السيناريو كتبه المخرج ليس على الطريقة البوليسية من أجل التشويق وزرع تساؤل عن هوية الجاني، بل إنّنا لم نتذكّر تلك الجريمة بفضل رهافة إحساس المخرج وقدرته على بناء السيناريو، إلا مع ارتكاب البطل لحادث القتل لتستحوذ علينا الحكاية العاطفية بكل تفاصيلها وتداعياتها!
الفيلم لا ينتهي هنا، لكنّنا نعيش الحلم مع الزوج عندما نرى زوجته في المطبخ وهما في طريقهما إلى مغادرة المنزل كأنّ المخرج يريد أن يحقق للمتفرج نهاية سعيدة لم تحدث على الشريط السينمائي، وهو يعيدنا مجدداً إلى تلك اللقطة التي شاهدناهما معاً في دار الأوبرا في بداية أحداث الشريط. لقد تألم الزوج وهو يرى زوجته الحبيبة عاجزة عن الحركة وتريد التخلص من حياتها، وهو لا يستطيع أن يعيش من دونها فخنقها وتخلّص هو أيضاً من حياته. لسنا هنا في مجال تقييم ديني وأخلاقي وقانوني لهذا الفعل، لكنه يقدّم بمنطقه الدرامي.
الكاميرا لم تغادر المنزل، إلا في مشاهد نادرة واحدة في المسرح، وأخرى أمام باب الشقة لكن يظل المنزل هو البطل المسيطر على الإحساس العام. ولم يجد المخرج سوى أن يقترب بالكاميرا لنرى من خلال نظرته التأملية لوحات تشكيلية على الجدران، ما يمنحنا قدراً من الرحابة.
شاهدت على مسرح قاعة "لوميير" في مدينة "كان" قبل ستة أشهر كيف أنّ الرؤية الدرامية للمخرج وحالة الفيلم البصرية التي تحققت، ما كان ممكناً توافرهما لولا أداء اثنين من كبار النجوم هما بطلا الفيلم جان لويس ترانتيغو وإيمانويلا ريفا اللذان امتزجا إبداعياً أمام الكاميرا واستحقا ثناء هانيكي، وقبل ذلك ثناء رئيس لجنة التحكيم موريتي.
وقبل أيام قليلة، شاهدت حالة من الشجن النبيل تحيط المشاهدين في سينما "مسرح المدينة" في دبي أثناء عرض الفيلم... إنّه "حب" عابر لحواجز الزمن!