إنه لأمر غريب أن يرتبط عيد الأم في وجداني بنزار قباني. لا لأنه ولد في 21 آذار، بل لما قاله لي نزار ذات مرة، وأصبح مع مرور الزمن حقيقة وجدانية تسكنني، وتحضرني أثناء مطالعتي لكتابات غيري من الشعراء والكُتاب، بحثاً عمّا يشي بين الكلمات بيُتمهم.
حدث ذلك قبل عشرين سنة، حين كنت أهاتفه يوم عيد ميلاده فيرد "كان لا بد أن أكون من يعايدك.. إنه عيد الأمهات وأنت أمي". فلا أدرك عمق ما يقول، وأعتبره كلاماً يجاملني أو يمازحني به. بما في ذلك قوله حين أخبرته بأنني سأسافر لأرى أمي "قبّليها عني.. إن كانت أمك فهي أمي أيضاً" ما الذي يجعل شاعراً كنزار يبعث قُبلاً لأمي ويبدو جاهزاً ليجعل منها أمه؟ الجواب قاله هو نفسه "كلّ مبدعٍ يتيم". هذا القول أكثر إيلاماً مما يبدو إنه الشفرة التي يمكن أن تفك سر كل مبدع أياً كانت جنسيته ومجال إبداعه. فهو يجد في الإبداع حضناً، وفي الكلمات أمومة، يمكن أن يضعف أمامها دون خجل، فهو طفل الكلمات وصغيرها الأبديّ الذي لا يكبُر.
في "خمس رسائل إلى أمّي" يقول نزار: "صباح الخير يا حلوة.. - صباح الخير يا قدّيستي الحلوة - - مضى عامان يا أمي - على الولد الذي أبحر - ولا زالت بخاطره تعيش عروسة السكّر - فكيف.. كيف يا أمي - غدوتُ أباً.. ولم أكبر؟". إنه يحن إلى "عروسة السكّر" التي تعدّها له أمّه، كما يحن محمود درويش إلى خبز أمه وقهوة أمه، التي تطارده رائحتها كما كانت تطارد رائحة كعكة "المادلين" مارسيل بروست في روايته الشهيرة "البحث عن الزمن الضائع".
غير أن علاقة الكُتاب الغربيين بأمهاتهم لا تخلو من الغرابة، والمشاعر المضطربة، يحضرني شوبنهاور الذي انشغلت عنه أمه بحياتها المتحررة فعاش على قطيعة معها حتى موتها، وهو ما تسبب في مقته الشديد للنساء وكل فلسفته المعادية لهن.
أمّا شارل بودلير صاحب "أزهار الشر" أحد أشهر دواوين الشعر في العالم، فحين صدور ديوانه كتب إلى أمه "في كل مرة أُمسك فيها الريشة لأكتب إليك عن حالي، أخاف؛ أخاف أن أقتلك، أن أدمّر جسدك الهشّ. أعتقد بأنك تحبينني بشغف، وبروح عمياء، أنت التي تملكين شخصية قوية. وأنا، أنا دائماً، كما تعرفين، على مشارف الانتحار. أحببتك بشغف في طفولتي. لكن لاحقاً، على وقع ظُلمك، بدأت أفقد احترامي لك، مقدّر لنا، بكل تأكيد، أن نحب بعضنا بعضاً. مع ذلك، وفي هذه الظروف الرهيبة التي أعيشها، بتّ مقتنعاً أن أحداً منا سيقتل الآخر وأننا، في المحصلة، سنقتل بعضنا بعضاً. لن تستطيعي العيش بعد موتي. هذا أكيد".
وحين صدور روايته "الشمس تشرق أيضاً" لم يتقبّل أرنيست همنغواي عدم إعجاب والدته بالرواية فكتب إليها غاضباً "لم أكتب لك جواباً عندما تلقيت منك رسالة بخصوص موضوع رواية "الشمس تشرق أيضاً". لأني لم أستطع كبت نفسي عن الغضب، ومن الغباء الشديد أن تكتب رسائل وأنتَ في حالة انفعال، ثم يزداد الموقف حمقاً إذا أردت الكتابة إلى أمك. طبيعي جداً أنكِ لم تحب روايتي وأتأسف لأنك تقرئين أي كتاب يُثير فيك الحزن والاشمئزاز". الفقدان أبو الإبداع لأنه يعيد الإنسان إلى ضعفه الأول، بل إلى معدنه الأول. هل يكمن الخلل الوجداني في الكُتاب الغربييّن أم في أمهاتهم؟ تحيّة إلى الأم العربية التي لدفء عطفها وتدفقه على من حولها، يغدو كصدقة جارية، يغمرك حتى بعد رحيلها. لذا قال أنسي الحاج "صغرتُ أمام الألم حتى عادت أمي من القبر لتحميني".