ككل عام، أنتظر رمضان على شوق. أنتظره كما لو كنت على موعد حُـب. فهو الشهر الأحبُّ، والموعد الأجمل، واللقاء الذي يمرُّ على عَجَل، ولا تدري كيف تستعدُّ له، ولا كيف تتزوّد منه، ولا كيف تفارقه. أغبط مَن يفوقني أجراً في صيامه وقيامه، ومَن لن أُضاهيه صدقة على فقرائه وأيتامه، ومن فضّله الله على عباده فاختاره إلى جواره في أيامه. لذا، ما زلتُ أرجو، مادام الموت قدراً، أن يوافيني الله في العشر الأواخر، فكلّ شيء جميل في هذا الشهر، حتى المغادرة على نداء مآذنه. أعتقد أنّ المرء إن أحبّ بجوارحه تاريخاً أو مكاناً، كتب له الله أن يتوفاه فيه. عندما قصدت الإمارات قبل أربعة عشر عاماً، لتقديم العزاء في وفاة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (طيَّب الله ثراه)، قلت لا بد أن يكون رحمه الله قد أحبّ رمضان من دون الشهور، وصامه وقامه، وفتح قلبه وخيمته لمحتاجيه وأيتامه، ليُكافئه تعالى باستدعائه إلى جواره في هذا الشهر الفضيل. حسدته آنذاك على جنازته، على بساطة نعشه، على الدعوات التي كفّنته، والمآذن التي رافقته. وعندما، بعد ذلك، أصرّت صديقتي الدكتورة هنادي ربحي، بعنادها الجزائري، على استبقائي لنصوم الأواخر معاً، كانت تهديني أجمل ما عشت من أيام، خاصة أنني كسبت إخوة في الله أعجز عن وصف نخوتهم وحسن خلقهم. من يومها وأنا أصوم في ضيافة أحبتي وأهلي (بيت الخيلي) الكرام، الذين ما قبلوا يوماً عذراً لي إن تأخرت.

منذ أربعة عشر عاماً وإلى اليوم، لم يحدث أن أخلفت موعدي مع مسجدي الصغير. فما أن يقترب رمضان، حتى تجتاحني حالة من الحنين الجارف لمسجد تعلّق قلبي به عند زيارتي الأولى. لقد كتبت وأفضت في وصف حنيني لذلك المسجد البسيط، حتى خلقت من دون قصد فضولاً وشوقاً لدى قرائي لزيارته. العجيب أنني إلى اليوم لا أعرف اسمه، لكن قلبي يعرف الطريق إليه، وحواسي تعرف رائحة سجاده، وصوت مؤذنه، والممرات الصغيرة التي تؤدي إلى مصلّى النساء.

يُقال إنّ المغفور له الشيخ زايد، أمر وهو يبني أبوظبي، أن يُبنى مسجد في كلّ شارع، بحيث يكون لكلّ خمس بيوت مصلّى قريب، يمكن لسكان الحي التردد عليه من دون مشقة. وهو سر وجود تلك المساجد الصغيرة المتناثرة بين البيوت التي تبدو مآذنها مضيئة بإنارة خضراء يراها الزائر من النافذة كلّما اقتربت الطائرة مساءً من الهبوط في أبوظبي.

تلك المئذنة التي ترتفع على بعد شارع من بيت أحبتي، غدت بوصلتي، أراها مضاءة، حيث أكون، كأنها تناديني، أو تنتظرني، إلى أن يطلع الفجر وينطفئ ضوؤها. فأسرع نحوها الخطى أياً كان الوقت، وحين بلوغها أنسى لساعات نفسي عندها، فبيني وبينها حوار لا ينقطع على مدار السنة. ويحدث في العشر الأواخر أن أصادف في الشارع أمواجاً بشرية مسرعة من كل صوب للحاق بصلاة التراويح، فأتأمّل جمال هذا المنظر المهيب على تلقائيته. يا الله كم أغبطهم، أملأ وجداني بصوت المآذن التي ترفع الأذان من حولي وتناديني جميعها، وكأنها تدري أني قريباً سأعود، حيث أقيم في لبنان، وحيث لا مسجد على مقربة مني ينتظرني، أو تناديني مئذنته «اشتقت إليك.. لا تتأخري».