وصلت مُصادفة إلى كَانْ، بتوقيت مهرجانها السينمائي الشهير، على متن طيران الشرق الأوسط. ما كنت لأدري بالمهرجان، لولا أن الطائرة اللبنانية، كانت أول منصة بدأ منها استعراض الأزياء، ورقيّ الذوق الذي اشتهر به اللبنانيون. اكتفيت بالتفرّج، فمنذ زمان ما عدت معنية بهوس التشاوف، وأصبحت لا أرتدي في الأسفار إلا ما يريحني، كما يفعل معظم الأوروبيين.
كان ضمن المسافرين، مَن تبدو عليه أعراض الصحافة، ويقصد المدينة المتبرّجة، بذريعة «التغطية». بينما سرقت ثلاث حسناوات من صَبَايَا الجَمَال الشاهق النظر في طابور الانتظار، بكعوبهنّ التي يُعادل طولها طول تنانيرهن شديدة الالتصاق بأردافهنّ النّحيفة. كن صواريخ تمشي على خمسة عشر سنتيمتراً، مصبوبات كما في قالب واحد، بأزيائهنّ السوداء، وشعورهنّ المربوطة إلى الأعلى على طريقة «ذيل الحصان»، كأنهنّ ذاهبات للتوِّ لتقديم عرض في ملهى «الكريزي هورس». كان واضحاً أنهنّ لا يُسافرن للتغطيّة، ولا للتَّعرِية، فقد كُـنَّ عاريات قبل حتى أن يصلن.
جاذبيّة الجَمَال، جعلتني أُتابعهنّ بالنظر، ووجدتني خلفهنّ أثناء إجراء معاملات ركوب الطائرة وهـنَّ يتقدَّمن مُحَاطَات بمرافقين. حاولت أن أُخفّف من وَقْع جَمَالهنّ الكَاسح على معنوياتي، بتذكُّر مُشاركتي في انتخاب ملكة جَمَال لبنان قبل عقدين من الزمن. قلت يومها ممازحة زميلي في لجنة التحكيم الراحل جبران التويني، الذي ما كان يُعجِبُه العَجَب في بازار الجَمَال، إنني بعدما شاهدتُ في الكواليس الصَبَايَا من دون مكياج، وهن يركضن في كلِّ الاتِّجاهات بما خف من ثياب استعداداً للمسابقة، حُلّت عُقدتي، وقرّرت أن أعود السنة المقبلة مع المشاركات، لا مع لجنة التحكيم، خاصة أنّ معظمهنّ، بمن في ذلك الفائزات، فاجأننا لاحقاً بكونهنّ، على صغر سنّهن، أجرين عمليات تجميل.
كنت خلف الصَبَايَا في الطابور أُعيد النّظر في نكتتي تلك. ثمّ قرّرت أن أسبقهنّ حتى أكف عن تأمّلهن، فتُذكّرني رشاقتهنّ بما آلت إليه حالي. فأنا لم أنسَ تلك النصيحة: «لا تبحث عن الجَمَال فعندما تعثر عليه تكون قد شوّهت نفسك!».
عند باب الطائرة، فوجئت بالمضيف يُسلِّم عليَّ بحرارة وهو يقرأ اسمي على البطاقة، وبدل أن يوجّهني إلى مقعدي، طلب مني الانتظار جانباً. أخذ قسيمتي وذهب بها إلى مقصورة قائد الطائرة، ثم عاد بعد دقائق مبتهجاً بعد أن أخذ الإذن بمنحي مقعداً في الدرجة الأُولى. سألني إنْ كنت أريد الجلوس إلى جوار النافذة أم على الطرف بجانب سيدة أم رجل؟ أجبته محرجة «ليس مهماً أنا شاكرة لطفك» ثمّ دَعَا مُضيفة الدرجة الأُولى ليُعرِّفها بي «إنّها كاتبة كبيرة زوجتي تعشق كتاباتها». شكرت الرجل وارتبكت في حضرة لبنان الآخر، لبنان الثقافة والإبداع الذي لتقديسه الأدب، جعل للقلم مكاناً في نشيده الوطني. أثناء ذلك مرّت الصَبَايَا الحَسْنَاوات، وعلى غير توقّعي اتّجهن نحو الدرجة الاقتصادية (غير أنهنّ عَبرن بعد ذلك بين الحين والآخر بمحاذاتي لاستعمال حمّامات الدَّرجة الأُولى!). حزنتُ من أجلهنّ حزناً خبيثاً.
أخذت من الْمُضِيف رقم هاتف زوجته كي أُسلِّم عليها لاحقاً وأهديها كتابا مُوقَّعَاً. فكّرت في تاج الكتابة، الذي ما ظننت بريقه سيُغطِّي على إشعاع الجَمَال وسطوته، في زمن لا دين لنصف البشرية إلاّ الجَسَد.
فكّرت أيضاً في القدر الذي غالباً ما يصحح رقم مقعدي، برغم إصراري على السفر على الدرجة الاقتصادية، لأنني أرى أن فرق الثمن بينها وبين الدرجة الأولى يتجاوز الألف دولار، وهو مبلغ يكفي لإعالة عائلتين أو ثلاث لمدة شهر، بينما لا تدوم الرحلة إلا أربع ساعات.
جميل أن يكون للأديب هاجس مساعدة الآخرين على حساب راحته، والأجمل أن يأتي من بين قرائه من يَرْفَعه إلى المكان الذي يراه لائقاً به. في تلك الرحلة انتصر قلمي لقوامي، فثَمَّة طريقة وحيدة كي تُواجه ظُلم الجَمَال وغطرسة المال من دون عقد.. هي أن تكون محبوباً!