ماذا لو قلت لكم إن قصة حب مي - جبران التي استمرت أكثر من عشرين سنة، مركبة، ولا وجود لها؟ طبعاً سيصاب الكثير من القراء العشاق بالغشاوة وبخيبة كبيرة. كيف لواحدة من أجمل القصص العشقي العربي، أن تكون مجرد وهم رومانسي؟ المعروف أن الشعوب، كل الشعوب، في حاجة إلى صناعة نماذج عشقية تغطي بها بعض القحط العاطفي في عالم يسيره الخوف والمصالح. قيس - ليلى، تريستان - إيزول، روميو - جولييت، حيزية - سعيد... عدت لحياة مي وجبران، وللرسائل التي شغلت الناس، سجلت تناقضات فيها الكثير من الغرابة. مثلاً لماذا لم يلتقيا وكانا حرين في الأسفار؟ الجميع يفتخرون بأن هذا الحب دام عشرين سنة من دون أي لقاء؟
وكأن الحب المثالي هو الحب المأساوي، مع أن قراءة بسيطة لهذه المراسلات ستضعنا أمام أسئلة كثيرة، منها عدد الرسائل ومحتواها؟ عشرون رسالة على مدار عشرين سنة؟ أي بمعدل رسالة واحدة ووحيدة في السنة؟ هل يعقل أن يكتب متيمان رسالة واحدة في السنة؟ رسالة واحدة في الشهر، يمكن للأمر أن يستقيم نظراً لوسائل التواصل الصعبة وقتها؟ كانت مي تبحث عن الأمان الذي افتقدته نهائياً في محيطها البعيد والقريب، أكثر من الحب. لغة جبران وفرت هذا الأمان، لكنها لغة في النهاية.
عندما فقدت حبها الأول الأكثر عنفاً في حياتها من ابن عمها جوزيف، لم يبقَ لها إلا حب والديها قبل أن يتوفيا في فترة قريبة. عاشت الحب الأول كسراً عميقاً، لأن العاشق يضع فيه عادة كل ما يملك من طاقة وصدق. لهذا تكون الخيبة صعبة التحمل، لدرجة الانتحار أو التفكير فيه. مي امرأة ذكية وبراغماتية. لم تمنعها حالة الكآبة من رؤية الحقيقة، لكن الأمان مات، والثقة المطلقة بعين طفولية، انطفأت منذ أن اختار جوزيف امرأة فرنسية شريكة له في حياته الباريسية. قاومت الغياب بنفي آخر.
تركت اسمها واختارت اسماً مستعاراً: إيزيس كوبيا. وكتبت مجموعتها الشعرية: أزاهير حلم، في 1911 الذي سجلت فيه هذه الخيبة. اختيار الاسم المستعار هو حالة هروب من الحقيقة المباشرة القاسية، لقول داخلها الجريح وإخفاقها مع ابن عمها. كان صالونها، يوم الثلاثاء، وسيلتها لإثبات وجودها كامرأة قوية الشخصية، وكسر قيد الخيبة الذي كاد يدخلها في دوامة اليأس. حتى عندما طلبت من جوزيف زيادة مساعدتها على تخطي محنتها النفسية، وعزلتها، جردها من مالها بحيلة الوكالة، وسرق ميراثها العائلي، وعندما احتجت، أدخلها مستشفى المجانين «العصفورية»، في بيروت.
تهمة الجنون هي انتقام فعلي من العقل الحر لمي زيادة، وفق منطق ذكورة بائسة ومهزومة. مي ظلت مقاومة لهذه التهمة، ولم تسمع حتى لخوفها الباطني. من هنا أتساءل أحياناً عن فكرة التركيز على الحب المثالي بينها وبين جبران، وهو أصلاً يكاد يكون غير موجود. فقد عاشت دائماً باستقلالية في حياتها الثقافية والفكرية والعاطفية، واستغلت الكثير من لحظاتها العشقية مع جوزيف ابن عمها في مراهقتها على الرغم من تربيتها الدينية في الأديرة، ثم مع العقاد الذي كان مقرباً ومغرماً بها، وكانت تبادله هذا الحب، قبل أن يذهب نحو عشيقة أخرى أكثر تحرراً، اللبنانية سارة داغر. وقصصها مع عشاقها الآخرين فيها الكثير من الالتباس: أمين الريحاني، مصطفى صادق الرافعي، لطفي السيد، سلامة موسى، وغيرهم.
رسائلها مع الكثير منهم، شاهد حي على ذلك، الأمر الذي يلغي كلياً فكرة الرابط المقدس والمثالي مع جبران. المؤكد أن مي زيادة لم تكن وفية لرجل واحد ولا لجبران. مغامرات جبران لم تكن أقل من مغامرات مي. في اللحظة التي كان يكتب فيها رسائله لمي، كان غارقاً في عشق واشتهاء الكثيرات: ماري هاسكل التي فصلت في علاقات جبران النسوية في مذكراتها التي عثر عليها في السنوات الأخيرة، جوزفين بيبودي، حلا الضاهر، سلطانة ثابت، إميلي ميشال المعروفة بمشلين، الشاعرة الأميركية التي لم يذكر جبران اسمها مثل المرأة الثلاثينية، ماري قهوجي، ماري عيسى خوري، شارلوت تيلور، مادلين مايسون، بربارة يونغ، وعيتريد باري، وغيرهن كثيرات. أين هي المثالية الرومانسية التي يفنى فيها الواحد على حبيبته كما نقلتها لنا الأساطير؟ هذه الحكايات الغرامية وجدان يصنعه كل واحد منا على مقاسه، في لحظة من لحظات العمر، قبل أن يتخطاه باتجاه حياة أكثر تعقيداً.