عندما تلتقي بروائي سبق أن قرأته، وصادقت لأيام كائناته الحبرية في كتاب، حتى غدت لك قرابة بها. تتوقع أن تكون شخصياته تلك برفقته. تكاد تسأله لماذا هي لم تحضر، وما أخبارها مذ افترقتما عند آخر فصل. ثمّ ينتهي بك الأمر أن تكتشف أنها ليست سوى هو. كل روائي منتحل صفة، فهو في الواقع ليس سوى أبطاله. ألم يعترف فلوبير بأنه «مدام بوفاري» بطلة روايته الشهيرة! ولو سئل نيكوس كازانتزاكيس عن زوربا لقال إنه هو، وربما أضاف «لكن زوربا في الرواية يتقن الرقص أفضل مني.. وهو أكثر تقبلاً مني للخسارات». ذلك أن أبطال الكاتب يشبهون أمنياته، ويمتلكون أحياناً مهارات يفتقدها، أو شجاعة تنقصه. لذا يحققون في الرواية ما عجز عن فعله أو قوله في الحياة. وأنا أطالع في «زهرة الخليج» افتتاحية العزيزة بشاير المطيري واصفة موعدي الأول معها واستقبالي في مكتبها، بدا لي أنها كانت تستقبل خالد بن طوبال لا أنا، وأنها كانت تبحث فيما أرويه من قصصي الصغيرة عمّا لم أروه عنه، واثقة بأن هناك ما أخفيته عن فضولها. لذا لم أعجب أن يكون عنوان مقالها «مجدداً مع خالد بن طوبال»، نظراً لما حكت لي عن تعلّقها بشخصيته ونضالاته وتعاطفها معه في قصة حبه الموجعة، وملازمتها البيت ليومين حتى تنتهي من قراءة الرواية. وهو ما ذكرني بقصتي مع نزار قباني، رحمه الله، يوم أعطاه ناشري وناشره آنذاك الدكتور سهيل إدريس روايتي «ذاكرة الجسد» بعد أن وجدت حرجاً في أن أهديه إياها لكونها عملي الأول، ولأن كبريائي الأدبية لا تسمح لي بأن أهدي أحداً كتاباً قد لا يجد الوقت لقراءته. لكن حدث ما فاجأني، فقد ظننت نزار قد انشغل عني بحبيبته بيروت، هو العائد إليها بعد عشر سنوات من الغياب، وقد كان قد غادرها إلى لندن إثر اغتيال زوجته بلقيس. لكنه طلبني قائلاً: «ماذا فعلت بي؟ أنا لم أغادر الفندق منذ ثلاثة أيام.. ما استطعت التخلي عن هذا الرجل». لم أسأله كيف لبطل رواية أن يسرقه من بيروت؟ وهل بكى أمام ما تلقاه خالد من طعنات وخيبات؟ فلعلي من كان يبكي لحظتها غير مصدقة كل ما نثر على الرواية من ورود الثناء، هو البخيل عادة في مديحه. لكنني واثقة بأنه لو عاش حتى صدور «عابر سرير» لكان بكى وهو يقرأ خاتمة خالد بن طوبال، تماماً كما بكت بشاير وقراء كثيرون متأثرين بفاجعة رحيل ذلك الكائن الحبري الذي عاشوا تفاصيل حياته على مدى ثلاث روايات. لماذا بكوا؟ لأنني بكيت قبلهم موت خالد بن طوبال وأنا أكتبه في «عابر سرير». حتى إني تلقيت خبر موته من الممرضة في المستشفى وأنا أنتحب، كما لو أنني لست من اختار له وفاته روائياً، وواصلت البكاء طوال كتابتي للفصل الأخير، إلى حين وصول جثمانه إلى قسنطينة، حيث لم يجدوا له في المدينة التي أحبها الأكثر، قبراً يمكن أن يدفن فيه! ليس هناك من سر في أي عمل أدبي ناجح سوى عدوى المشاعر. ما يكتبه الكاتب بوجدانه يصل إلى وجداننا، وما يكتبه وهو يبكي سيبكينا، وما يكتبه وهو عاشق ستخفق له قلوبنا، وما يكتبه عن قناعة سيقنعنا.. كل ما عدا ذلك كلمات لن تغادر الصفحات!