ماذا لو عدنا لتلك اللحظة؟ للغة جاذبية قوية تشبه الجاذبيات الحميمية، تتخطى العقل أحياناً. فهي أكثر من سلسلة كلمات متناغمة، ذاكرة حية أبداً، تستيقظ باستمرار حتى ولو وضعت في تابوت اللغة الذي يحوي أشواقنا، وهزائمنا الصغيرة، ورغباتنا الدفينة وكم من الرغبات الدفينة في عالم عربي يموت كل يوم قليلاً؟ أول ما صادفت هذه الكلمات، كان ذلك عبر الأثير، وعبر هذه الجملة التي كانت هي جنريك حصة أحلام الإذاعية: همسات، في سبعينات القرن الماضي: ثم ماذا لو تحدثنا قليلاً؟ متعباً وجهك كان. مغلقاً عمري كان. كنت بوهران، وكانت أحلام يومها بالعاصمة. عمري لم يتخطَّ الـ20 سنة. أول لقاء فعلي كان بمدرج الإبراهيمي بقسم الآداب بوهران. قرأت شعراً برفقة الصديق عمر أزراج، وأعتقد قصي درويش. غطيت ذلك لجريدة الجمهورية التي كنت أتعاون معها. لكن أجمل لحظة، كانت عندما عدت من الشام، بعد عشر سنوات غياب، وكانت أحلام عائدة من باريس. التقينا باتحاد الكتاب الجزائريين، كانت أحلام يومها تلبس الأحمر والأسود. تذكرت أغنية جاك بريل التي يقول فيها: من قال إن الأحمر والأسود لا يلتقيان؟ حيينا الجميع، ثم جلسنا معاً. ولا أدري السر الذي قادني نحو تلك الجملة. قلت لها وأنا أنظر لعينيها الصافيتين الواسعتين: ثم ماذا لو تحدثنا قليلاً؟ كان لقاء جميلاً، شيدت على أساسه صداقة طفولية استمرت زمناً طويلاً بين تونس والجزائر وبيروت وباريس، ومدن فرنسية أخرى. فقد رافقتني جملتها حتى تسللت نحو روايتي شرفات بحر الشمال التي كان فيها شيء منا، من خلال شخصية حنين. بعثت المخطوطة لأحلام وقرأتها قبل صدورها في دار الآداب بيروت. كانت أحلام قد تخطت عتبة تلك الجملة، وأصبحت روائية لها اسمها الكبير.
عندما تعقد الوضع في الجزائر، وكان الموت جزءاً من يومياتنا، استقبلني رئيس الحكومة المناضل والمثقف الكبير والعقلاني وشخصية من شخصيات اتفاقيات إيفيان المهمة رضا مالك، في مكتبه. وأتذكر جملته الذكية. ماذا ستفعل لو أوكلنا لك مهمة تسيير وزارة الثقافة؟ أخافني بمقترحه. بعد الاعتذار، قلت هذه وجهة نظري: أولاً، التفكير في حماية الميراث المادي واللامادي الذي كان يباد ويسرق يومياً. ثانياً، لا بد من جلسات عامة لتحديد حالة الوضع الثقافي العام في البلاد. الخطر الكبير أن تجفف البلاد من مادتها الرمادية التي على الدولة حمايتها. حماية القصبة وتبازا ومغارة سيرفانتس التي هرب سيرفانتس نحوها وبدأ يخط ملاحظاته الأولى لروايته العظيمة أبدا دون كيخوتي، وفرندة التي كتب فيها ابن خلدون جزءاً من مقدمته، وغيرها من الانهيار الكلي. وتأهيل القصور التركية الضائعة الكثيرة والمساجد العتيقة. ومواقع الكتاب والفنانين الكبار: ماركس، سان سونس، فرومونتان، ألبير كامي، الشيخ ريمون، وغيرهم. استعادة قاعات السينما التي تم السطو عليها بعد الاستقلال وغيرها من القضايا. قال لي أنت الوحيد ممن استشرتهم الذي بذهنه مشروع واضح. قلت له أحتاج إلى أسبوع للتفكير. هربت بعدها إلى تونس من شبح الوزارة، ولم ألتفت ورائي.
لقد ولدت حراً تحت عصف الرياح والمطر، وأموت في ظلهما. كانت حريتي فوق كل شيء. اخترت مسلك الكتابة. فقد كانت رهاني الكلي، ووسيلتي لتحمُّل الحياة، بل وحبها أيضاً. في تلك الفترة الضيقة، بالضبط تلقيت رسالة من أحلام، كتبتها على ورق أزرق: كان كلامها صريحاً: وجودك في الوطن يشعرني بعقدة السعادة، وربّما عقدة العيش بهناء بعيداً عن الخطر، بينما اخترت أنت هذه الحياة المجنونة... سمعت أنك ستُعيّن وزيراً للثقافة في الحكومة القادمة... قد يضغطون عليك ويصورون قبولك نضالاً وطنياً. لا ترتكب حماقة كهذه. ليذهب جميع سياسيي الجزائر إلى الجحيم، وليبحثوا لهم عن آخرين غيرك يُهدونهم وجاهة هذا الموت المجّاني. من كلّ قلبي أتمنّى أن ترفض هذا القدر الذين يريدون زجّك فيه. أنت أكبر. لك وجاهة التاريخ والأدب وكرسي شاغر في قلبي... زارتني أحلام بعدها في بيتي في الجزائر، وكان ذلك جرأة كبيرة منها. كانت من القلة القليلة من الذين زاروني بشجاعة كبيرة. قضينا معاً يوماً جميلاً في بيتي، برفقة زوجتي الشاعرة والأكاديمية زينب، وابني باسم وريما. وتحدثنا طويلاً عن فكرة الخروج والمغادرة. غادرت بعدها بقليل الجزائر مؤقتاً إلى باريس بدعوة من المعهد العالي للأساتذة، ثم السوربون. ومن هناك سافرت إلى لوس أنجلوس. هذا المؤقت أصبح عمره اليوم ربع قرن من الغياب فقط. أحلام في كل هذا، كانت أكثر من جملة. هل قتلت عشرية الإرهاب، وظلمة المنفى، ذلك الصوت، وتلك الجملة الصغيرة؟