سلام على هضبات العراق
وشطيه والجوف والمنحنى
وتمشي رخاء عليها الصبا
تخوض منها بماء صرى
يسرف في شحه والندى
ودجلة تمشي على هونها
ودجلة زهو الصبايا الملاح
تريك العراقي في الحالتين
هذه أبيات من الجواهري ما إن تقرأها حتى تحس أنك في العراق، ولا شك أن الجواهري قالها وهو بعيد عن أرضه وناسه وحبه، ونحن وإن قربنا من العراق فإننا نحس أننا بعيدون عنه، تلك أرض السواد، كما سماها أجدادنا، وهي أرض الذاكرة المعمورة تاريخياً وشخصياً، وليس منا أحد إلا وله ذكرياته الخاصة والخصوصية مع العراق، ومنذ طفولتي المبكرة والعراق جزء من ذاكرتي في البيت وفي قصص معارفنا وعائلاتنا ذات الصلة العائلية مع العراق، إلى قصص جدي وزائريه من بين عمومته الذين لم ينقطعوا عن عنيزة إلا بعد علمهم بوفاة جدي عام 1959، حيث انقطع عنا أولئك الرجال ذووا العقال الكثيف واللهجة المدورة والذين لا تفارق السيجارة أفواههم، ومن خلفها بسمة ندية تختلط برائحة التبغ، ولا يكفون عن ترشف القهوة في مجلس جدي.
وكم عجبت حين رأيت بيت الجواهري وقوله: «يسرف في شحه والندى» حيث تذكرت أولئك الرجال المشحونين محبة وكرماً ولكنهم لا يلبثون أن يتحولوا إلى أسود كاسرة في لحظة خاطفة، وكنت حينها أعجب من شدة تغيرهم المفاجئ وأتعجب من جدي ووالدي وهما يتحملان التغيرات هذه وتنتهي الجلسة بتقبيل للخشوم وفنجال قهوة.
وظلت الصورة هذه تثير تعجبي، وكنت أسأل عنها والدي ويقول لي: «هذا هو العراقي، يمطر ويرعد». لم أنس جواب والدي وأنا أستقبل بيت الجواهري، وأقول «نعم نعم ذاك هو». ويظل العراقي ورداً على ورد، يتدلل في ذاكرتنا، وينوب عنا الجواهري في تقديمه بذاكرة حية تصفه كما تصف دجلة الخيرات.