في عام 2015 شاهدت فيلمين لا يَخرُج أيٌ منهما تقريباً عن أربعة جدران؛ إلّا أنهما يُحلّقان بك في فضاءٍ فسيح من الخيال والتساؤلات والدّهشة، ويَطيبُ لي أن أربط بينهما الآن بعد مُرور ثلاثة أعوام، لعلّ أحداً يشعر بما شعرت به حين شاهدتهما لأول مرّة.
غرفة
«حين كنتُ صغيراً، كنت أعرف أموراً صغيرة، لكن الآن حين بلغتُ الخامسة؛ أصبحت أعرف كل شيء». لعَلّي أبدأ حديثي عن التحفة السينمائية (Room-غرفة)، بهذه العبارة العميقة التي تَفوّه بها بطل الفيلم - الطفل جاك - وهو يصف انعكاسات التغيير الهائل على نظرته للأشياء، بعد انتقاله من غرفةٍ وُلد وعاش فيها لخمس سنوات إلى العالم الخارجي الذي لم يعلم بوجوده من قبل.
عالم غير حقيقي
يحكي فيلم غرفة عن أمٍ شابة تَرْعَى طفلها «جاك» في غرفةٍ ظلّوا محبوسين فيها معاً لسنواتٍ خمس - لأسباب سأترك للقارئ معرفتها حين يشاهد الفيلم - لكن «جاك» لا يعلم أن الغرفة هي سجنٌ أجْبرا على البقاء فيه، بل يظنها العالم الحقيقي الوحيد الذي ليس بعده إلّا الفضاء، ويَرْجَع ظنّهُ هذا إلى تربية أمّه له، حيث أخفت عنه حقيقة الغرفة، وتركته يَكبُر معتقداً أنه يعيش حياةً طبيعية، وأنّ العالم مَحصورٌ في أربعة جدران. إنني أعتبر هذا الفيلم رحلة تأمُّليّّة أكثر من كونها مُجرّد مُشاهَدة، فالمتعة تكمُن في التحديق في مَلامح الأم وطفلها لترى الفرق بين تعابير شخصيةٍ تَعْلَم بسرّ الغرفة وأخرى تظنها هي العالم الطبيعي، وستُدهش من الإتقان الذي حققه القائمون على الفيلم في ضبط هذه العلاقة، التي تعتمد على الوجود الفسيولوجي لشخصين في مكانٍ واحد، لكن بإدراكين مختلفين تماماً.
أداء مقنع
لا أبالغ أبداً حين أقول إنّ التمثيل كان أسطورياً، لدرجة أنني شَكَكْتُ أثناء مُشاهدة الفيلم بأنهم حَبَسُوا الممثلين فعلاً في غرفةٍ لأكثر من خمس سنوات، حتى يصلوا إلى هذه الدرجة من الإقناع! المفاجأة الحقيقية كانت الطفل «جاك»، الذي جعلني أصدّقه لدرجة عدم التصديق! فطوال الفيلم كنت أتساءل كيف يمكن لطفلٍ لم يتجاوز الخامسة، أن يُقدّم هذا الأداء العظيم الذي لا يعتمد على مهاراتٍ جسدية أو حركاتٍ بهلوانية، بل على إظهار التعابير النابعة من دواخلٍ نفسية عميقة تتشرّب بها ملامح الممثل مع الوقت، وهنا يجدر بنا أن نقف ونُصفّق لطاقم الإخراج الذي لا بدّ أنه صبَر وتحمّل كثيراً، واهتمّ بأدق التفاصيل ليكتمل نضج هذه الوجبة السينمائية، ويتلذّذ بها المشاهد.
زنزانة
حين رأيتُ مخطّط القاعة لأختار مقعدي للفيلم الإماراتي «زنزانة»؛ فوجئتُ بأن جميع المقاعد شاغرة، وبأنني الحاضر الوحيد للعرض، وذلك جعلني أشعر بإثارةٍ مُسبقة! شخصٌ واحد فقط سيختلي بشاشة السينما في قاعةٍ تستوعب أكثر من مئتي شخص. القاعة رقم 4 كانت على وشك أن تغلق أبوابها لليوم، إلّا أنها الآن ستضطر إلى تشغيل جهاز «البروجكتر» لي فقط، ولقرابة الساعتين، لتمنحني ما دفعت الـ35 درهماً من أجله. عندما جلست أخيراً في مقعدي؛ أدركتُ فعلاً أنني أشْبَه ما يكون في «زنزانة» انفراديّة واسعة، انتظرتُ حتى أُطفئت الأضواء، وقضمْتُ أول قطعة من «كريب النوتيلا»!
تحديات الإخراج
يتحدث الفيلم عن شابٍ يجد نفسه في زنزانة المخفَر بعد تَورّطه في شجار، وكان على وشك الخروج بشكلٍ قانوني لولا الظهور المفاجئ لضابطٍ محتال بدرجة مُجرم، يتولّى مسؤولية السجين ويحاول استغلاله بتوريطه في خطةٍ جهنّمية، مُهدّداً إيّاه بإيذاء مطلقته وابنه في حال عدم تعاونه.
كان التحدّي الأكبر في الإخراج هو عدم إصابة المشاهدين بالملل، فكل أحداث الفيلم تجري في مكانٍ واحد، وهو الغرفة التي فيها الزنزانة، وهنا عليّ أن أرفع القبّعة للمخرج الإماراتي ماجد الأنصاري، الذي بَهَرَني برؤيته العالميّة في الإخراج، من حيث انتقاء زوايا التصوير وتوظيف الموسيقى التصويرية في الاستحواذ على انتباه المشاهد والتحكم بإيقاع التشويق، وفوق هذا كلّه؛ إخراج التمثيل بطريقة مسرحية مُتمرّدة ومُشبعة، فأداء الضابط الشرّير في الفيلم كان خرافياً، بل إنه يُضاهي أداء نجومٍ هوليوديين في بعض أفلامهم.
«زنزانة» يُعتبَر نقلة نوعيّة للسينما الإماراتية في مجال الإثارة والتشويق. إنها المرّة الأولى التي أقتنع بها بفيلمٍ إماراتي بهذه الطريقة المتكاملة تقريباً، حيث حَجَبَت إيجابيّات الفيلم سلبيّاته البسيطة، وأوْقَدَت فينا الطموح الذي يُهيّئنا للانطلاق من المحلّية إلى العالميّة. لقد كنت وحيداً في القاعة، وبذلك فأنا لا أكذب حين أقول: كل ما كانوا في القاعة صَفّقوا لفيلم «زنزانة»!