في مثل هذا الوقت - الذي أكتب فيه المقال - من العام الماضي، كنت أركض لاهثاً مع صديقي بعد نزولنا من مترو دبي إلى داخل «مول الإمارات»، للحاق بأحد أفلام مهرجان دبي السينمائي. كنا قد استقللنا المترو كنوع من التغيير، لنتحرّك خِفافاً ونتجنّب الازدحام، وبعد انتهائنا من العروض كافة لذلك اليوم، عدنا لنركض باتجاه المترو آملين أن نلحق بآخر مقطورة تغادر مع منتصف الليل.
بدا وكأنه مشهدٌ من فيلم: شابان يركضان بكندورتيهما، نظرات الأجانب المستغربة، التنبيه الآلي الأخير بوصول القطار وفتح الأبواب. وبمجرّد وصولنا إلى رصيف المحطة، حشرنا نفسينا في المقصورة المزدحمة، قبل ثوانٍ من الإغلاق، وتنفّسنا الصعداء بفخر، قبل أن نكتشف أننا ركبنا المقطورة الخطأ، وهي التي تسير في الاتجاه المعاكس.
ضحكنا كثيراً في تلك الليلة، والليالي التي تلتها، لكننا الآن نتذكر تلك الحادثة بحزن، فقد ارتبطت بمهرجان دبي السينمائي الذي صدر قرار بتنظيمه كل عامين بعد أن كان ينظّم سنوياً. كانت صدمة لكثير من السينمائيين الذين رأوا في هذه الخطوة طريقة رحيمة لإعلان وفاة أحد أنجح 10 مهرجانات سينمائية في العالم.
جبنا العالم
في ديسمبر الجاري، كان يفترض أن تقام الدورة الـ15 من المهرجان، وكنت لأنشغل الآن مع صديقي في اختيار الأفلام التي سنشاهدها، مثل جامعيين ينظّمون جداولهم مع بداية الفصل.
نختار هذا الفيلم ونُفاضل بين ذينك الفيلمين ونحسب الوقت اللازم للانتقال من «مول الإمارات» إلى سوق مدينة جميرا، لنشاهد أقصى عدد ممكن من العروض في اليوم الواحد.
كنا قد حجزنا فندقاً في دبي لثلاث ليالٍ لحضور المهرجان، وفي الأيام المتبقية كنا نخرج من أبوظبي ظهراً متجهين إلى دبي ونعود قبيل الفجر، لتصبح حصيلتنا من المهرجان 20 فيلماً تقريباً، وصداقات جديدة، وثلاث مخالفات رادار.
في مهرجان دبي السينمائي، كنا نجوب العالم من دون أن نبرح مقاعدنا في القاعة.
زرنا كردستان لأول مرة في فيلم (زاغروس)، وانتقلنا إلى الريف البلغاري في فيلم (المذياع) حيث يخاطر أحد الآباء بشراء مذياع لابنه العاشق لموسيقى الروك آند رول المحظورة آنذاك، وحلّقنا في أجواءٍ من السحر والمتعة البصرية في الفيلم الهندي (خمس روبيات)، وخرجنا بأعينٍ دامعة من فيلم (آخر الرجال في حلب)، وعشنا معاناة المغترب الإيراني في فيلم (الفاتن) في سعيه للحصول على الجنسية الدنماركية، وتمنّينا أن نعيش بالقرب من مقبرة سيدي بلقبور في الفيلم الجزائري (إلى آخر الزمان). كما كان المهرجان ويؤلمني هنا استخدام صيغة كان - بيئة حاضنة للأفلام الإماراتية خاصة، والخليجية والعربية عامة، فكنّا محظوظين بمشاهدة العرض الأول في العالم لفيلم (ولادة) و(نادي البطيخ) و(وضوء) و(ضوء خافت) وغيرها.
في وداع المهرجان
لم يتعلّق مهرجان دبي السينمائي بالأفلام فحسب، بل حتى بالاستراحات ما بين العروض، بجلوسنا لنصف ساعة في ذلك المقهى إلى موعد العرض التالي، باختيارنا لتناول الغداء في مطعم لم نجربه من قبل، لكنه الأقرب لقاعة السينما، بلقائنا مع صديق يوصينا بمشاهدة فيلم ما ويشاركنا جدول أفلامه، بركوب الحافلة التي تقلنا إلى سوق مدينة جميرا، بالمشي على السجادة الحمراء من دون أن نخرج بصورة واحدة، وبترتيب مواعيد النوم والاستيقاظ للحاق بعروض الأفلام.
كان المهرجان يُعيد تشكيل الوقت ويغيّر من هندسة المدينة، ويتركنا في حالة من الهيام الحالم طوال أيامه الثمانية عندما كنت أركض مع صديقي للحاق بالمترو في آخر يوم لنا في المهرجان؛ لم نكن نعلم أنها قد تكون المرة الأخيرة، وإلا لكنّا قد تريثنا قليلاً وفكرنا بوداعٍ ما.
وعلى الرغم من أن المهرجان سيعود في 2019، إلا أن أغلب المهتمين بالسينما يرون أنه سيكون في حالة موت سريري، وسيؤول مصيره إلى ما آل إليه من قبل مهرجان الخليج ومهرجان أبوظبي السينمائيين، وكم نتمنّى أن نكون مخطئين في ذلك، وإلا فإنّ هذا المقال ليس إلا باقة زهورٍ أُلقيها على ضريح: «مهرجان دبي السينمائي» 2004-2018.
تذكرة لي ولكم
كثير من الأفلام التي عُرضت في مهرجان دبي السينمائي لا تُعرض في دور السينما المحلية، وقد لا تتوافر على الإنترنت إلا بعد وقت طويل. هنا توصية لأفلام أميركية وأوروبية عُرضت في النسخة السابقة ويسهل العثور عليها لمشاهدتها:
I, Tonya
Three billboards outside ebbing missouri
The Darkest Hour
Shape of Water
The Disaster Artist
The Death of Stalin
The Square
Film Stars don›t die in Liverpool
Molly’s Game
The Killing of a Sacred Deer