جلست على طرف السرير وهي تنظر لملامح وجه أمها المستغرقة بالنوم الهادئ والعميق وكأنها تراها للمرة الأولى، فقد كانت هادئة ومستسلمة، فنزلت من عينها دمعة شعرت بسخونتها وامتنعت عن مسحها، على الرغم من كثافتها، وكأنها تقصد تحفيز مشاعرها التي كادت تخنقها علها تكون عقاباً لقسوة قلبها وأنانيتها التي امتدت لسنوات، عقاباً لأمها التي طالما اعتقدت أنها أم قاسية، متحكمة، عنيفة جعلتها تعيش ألماً ممتداً خلال سنوات عمرها.

وبدأت تسترجع بعض المعتقدات التي كونتها عنها، حيث كانت تخشى ما يعتقده الناس إذا لم ترتقِ هي وإخوتها للمستوى، الذي باعتقادها هو المطلوب من الجانب الشخصي والأخلاقي والدراسي. كما تذكرت محاولاتها التحدث وإبداء رأيها بما تريد وما تتمنى وما تعتقد، وكانت أمها دائماً بالمرصاد، حيث تدير الحديث وتتحكم بالمشاعر، وإن حاولت فالنهاية فاشلة وبالنسبة إلى قناعتها فإن الأم هي صاحبة القرار الأخير.

حاجات عاطفية

كانت أمها وبانتظام تتجاهل خصوصية أبنائها، ولم تترك لهم مساحة للتحرك من خلالها ولا حتى بالتفكير، وإن طلب أحدهم ذلك كانت تواجهه بالعنف الجسدي أو اللفظي وكثيراً ما كانت تتجاهل طلباتهم، إذا أرادوا التحدث معها بموضوع معين، وكثيراً ما كانت تنتقد أو تهاجم اختياراتهم مع الكثير من جمل النقد. كما عليهم التفكير في حاجاتها العاطفية وتفهم مشاعرها وإلا فإنها تتصرف كضحية ليشعروا بالذنب، باختصار لم تكن مريحة في أي من الاتجاهين.

استرجعت تلك الأزمنة وكيف كانت أمها تفتقر إلى التعاطف، وفجأة انهمرت دموعها متدفقة حين تذكرت بقسوة أمها وعدم قدرتها على التفكير بصعوبة المواقف، وأنها لم تستطع أن تقدر من خلال وضع نفسها بتلك المواقف، لم تكن يوماً قريبة أو متفهمة لما يشعر به أحد أبنائها، تجد صعوبة في النقاش وإذا شعرت بالعجز عن الرد أو بالخطأ حينها تصبح عدوانية ودفاعية وتبدأ بتوجيه اللوم وتتركهم وتمشي.

استراحة دائمة

بعد أن أنهت دراستها الجامعية قررت أخذ استراحة دائمة، حيث قررت البحث عن عمل في مدينة أخرى وكانت تأتي للزيارة نادراً، فهل كان ذلك حلاً للمشكلة؟ هل بالفعل انتهت تلك المضايقات بالبعد وخلق المسافات؟ بالطبع لا، لأن جميع التراكمات لا تزال باقية في الداخل، والمشاعر المؤلمة لم تُشفَ بالمسافات والابتعاد، بل بمواجهة الألم وبالعمل كعائلة على التخلص من كل ذلك وعليهم طلب المساعدة من المختصين للتدخل المهني الفعلي، والجميع يعلم مدى صعوبة مناقشة المشاعر.

ولكن بالنسبة إليها الأمور مختلفة على الرغم من كل ما تعانيه قد لا يكون كما تفكر وأن أمها بهذا السوء قد تكون لديها أم صعبة، ولكن قد لا تتصرف بهذه الطرق طوال الوقت ولكنها تعمم، كما يمكن للأم الصعبة أيضاً أن تكون موهوبة ولها جوانب رائعة وإيجابية، ولكنها لم ترها أو تتأملها جيداً، حيث كان تركيزها على السلبيات وتقاضت عن إنجازاتها التي يمكن أن تفتخر بها.

وفجأة دخلت الممرضة لتقطع حبل التواصل المتداخل، بين أفكارها ومشاعر الذنب نتيجة العطف على وضع أمها، لا شك في أنها لا تستطيع التخلي عن أمها والاستمرار بالبعد الوهمي، واكتشفت أنها خسرت الكثير من السنين بعيدة عن أمها، ومتمسكة بأفكار تؤجج بداخلها المشاعر المؤلمة، لذا قررت التقرب منها، وقررت زيارة الأخصائي النفسي لتتعلم كيفية التعامل مع الألم والخبرات المؤرقة، وبدأتها باحتضان يديها وقبلتهما، وبكت وبكت.. وإذا بصوت أمها الضعيف المرتجف يهمس باسمها، وقررت أن تكون قريبة عاطفياً، وذلك سيخفف توقعاتها ويعزز الوفاء.