من مسرح "شاطئ الراحة"؛ انطلقت مساء أمس الثلاثاء في تمام العاشرة سادس حلقات برنامج "أمير الشعراء"، أولى حلقات المرحلة الثانية، وهو البرنامج الذي تنتجه لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية في أبوظبي، في إطار استراتيجيتها الثقافية التي تهدف إلى صون التراث، وإلى تعزيز الاهتمام لدى المتلقين بالأدب عموماً وبالشعر العربي خصوصاً، بشقيه النبطي والفصيح.
وشهدت الحلقة عدة أحداث، بين الإعلان عن اسمَي الشاعرَين المتأهلين إلى المرحلة الثانية، وذلك عن الحلقة الأخيرة من المرحلة الأولى، وتقارير حول الشعراء، وقصيدة مغنّاة، إلى جانب الحدث الأبرز الذي يتمثل في المنافسة بين الشعراء.
وعبر قناة "الإمارات" وقناة "بينونة" تم نقل أحداث الحلقة السادسة التي حضرها كل من عيسى سيف المزروعي، نائب رئيس لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية بأبوظبي، وسلطان العميمي مدير "أكاديمية الشعر"، وعدد من الدبلوماسيين في مقدمتهم سعادة السفير الأردني في الإمارات جمعة العبادي، وممثلين عن الجاليات الأردنية والسودانية والمصرية، بالإضافة إلى عشاق الشعر.
وقبل بدء مجريات الحلقة ؛ أعلنت مقدمة البرنامج لجين عمران عن تأهل الشاعرة دينا الشيخ من السودان ومحمد الأمين جوب من السنغال؛ إلى المرحلة الثانية، وذلك بعد جمع درجتي لجنة التحكيم في الحلقة الماضية مع نتيجة تصويت الجمهور لهما، لتتأهّل الشيخ بـ71% وهي التي تغيّبت عن الحلقة، وجوب بـ56%، فانضمّا بذلك إلى زميلهما الشاعر السعودي سلطان السبهان الذي تأهل في الحلقة الماضية، فيما خرجت الشاعرة منى القحطاني من المسابقة بـ54%.
آلية تحكيم المرحلة الثانية
أعضاء لجنة التحكيم المكونة من أساتذة النقد: د. علي بن تميم، ود. صلاح فضل، ود. عبدالملك مرتاض؛ ترقبوا خلال الأمسية ما سيلقيه الشعراء الذين كان عليه الالتزام بآلية تحكيم المرحلة الثانية من المسابقة، والتي كشف عنها د. علي بن تميم، وحسب ما قال فإن هذه المرحلة تتكون من ثلاث حلقات، يتنافس في كل أمسية من أمسياتها خمسة شعراء، وتطلب اللجنة من كل واحد منهم في كل حلقةٍ قصيدة مقفاة أو عمودية، لكن اختيار موضوعها يخضع لحرية الشاعر، فإن قدّم الشاعر قصيدةً عمودية فلا بدّ أن يلتزم بكتابة أبيات لا تقل عن ثمانية، ولا تزيد عن عشرة، وإن قدّم قصيدةً مقفّاة فعليه أن يكتب 15 مقطعاً في الحدود الدنيا، و18 مقطعاً في الحدود القصوى.
أما بالنسبة لفقرة المجاراة ففي كل حلقة تختار اللجنة موضوعاً وعلى الشعراء الالتزام بمجاراته. وليلة الأمسية كان مفتتح المجاراة مع أبيات للشاعرة ولادة بنت المستكفي، وكان على شعراء الأمسية كتابة أربعة أبيات على وزن وقافية الأبيات التالية:
"أغار عليكَ من عيني ومنّي ومنكَ ومن زمانك والمكانِ
ولو أنّي خبّأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني"
المطيري تتأهل بـ47
بعد أن شهدت الحلقة منافسة عارمة بين الشعراء الخمسة الذين تم اختيارهم لتقديم إبداعاتهم، وهم: مبارك السيد أحمد من مصر، شيخة المطيري من الإمارات، ابتهال تريتر من السودان، هاني عبدالجواد من الأردن، وسعد جرجيس من العراق، فقد ذهبت فرصة التأهّل للمرحلة الثالثة للشاعرة شيخة المطيري إثر حصولها على 47 درجة بقرار لجنة التحكيم، تلاها في الدرجات هاني عبدالجواد بحصوله على 46 درجة، ثم ابتهال تريتر وسعد جرجيس بحصول كلّ واحد منهما على 44 درجة، وأخيراً مبارك سيد أحمد الذي حصل على 43 درجة.
"هذه ليلتي" بصوت نجاة رجوي
استمتع الجمهور ليلة أمس بالأغنية التي قدمتها نجاة رجوي ضيفة الحلقة، حيث شدت بأغنية "هذه ليلتي" لكوكب الشرق أم كلثوم، وهي من كلمات الشاعر جورج جرداق وألحان محمد عبد الوهاب، وكانت أم كلثوم قد غنّتها للمرة الأولى عام 1968:
هذهِ ليلَتي وحلمُ حياتي بينَ ماضٍ منَ الزّمانِ وآتِ
الهوى أنتَ كلُّه والأماني فاملأ الكأسَ بالغرامِ وهاتِ
بعدَ حينٍ يبدّلُ الحبَ دارا والعصافيرُ تهجرُ الأوكارا
وديارٌ كانتْ قديماً ديارا سترانا كما نَراها قِفَارا
سوفَ تلهو بِنا الحياةُ وتسخرُ فتعالَ أحبُّكَ الآنَ أكثر
ابتهال تريتر.. "تجاوُزاتٌ شَاعِرة"
كانت البداية مع الشاعرة ابتهال تريتر من خلال نصها "تجاوُزاتٌ شَاعِرة"، والتي اعتبرها د. صلاح فضل مكثفة بالشعور، ومضمّخة بالعطور، وقادرة على التجاوز الجميل، وهي تمثيل صادق للسودان، وهي التي قالت في أبياتها الأولى:
نُودِيتُ من أعلى الفرادة من ثنِيَّات المُنى
ألقِي فإن على يمينِك بُردتَين ومِئذَنة
أَنْسَلُّ من طينِيَتِي والأَرضُ تسألني يدي
وعصايَ والحزنُ المخبأُ في رئاتِ الأمكِنة
أنثى وفي مَطرِ النِّضال وضعتُ.. أطهَر كلمة
شقَّت بمَقدمِها الظَّلامَ وباركتْها الأزْمِنة
دقِّي نَواقِيسَ البقاء لتَستريحَ سحابة
وطفاءُ تقترِحُ النَّدى سُوْرا ًوتهطل دَوزَنة
خُونِي القواميسَ التي خلعَت عليك نِقابَها
يا عورةَ الّلغةِ التي وَأَدتْكِ.. أنتِ مُحصَّنة
ثوري على الشِّعرِ الحَرامِ فلا تحِل قَصِيدةٌ
سفَكتْ دِماءَ الورْدِ في حَرَمِ الغُصُون المُؤمِنة
وأضاف د. صلاح فضل أن ابتهال تكتب شعراً عارماً وقوياً، وقدمت أبياتها العشرة الموزعة بين محورين متوازنين، المحور الأول يتركز حول إضفائها طابع القداسة على الإبداع الشعري بتمكين المجازات التعبيرية المتحررة، فيما يدور المحور الثاني حول مداعبة الشعر والشعور الوطني الراهن.
أما التجاوز الذي تعلنه ابتهال منذ العنوان فيعني اختراق سقف المألوف، وتطاول رقبة الكلام، وادعاء الوحي الشعري مع خصوصية المرأة، بحيث تؤكّد الأنوثة وتوظفّ الوضع لأطهر كلمة.
ولدى ابتهال رموز وإيحاءات منذ مطلع القصيدة إلى نهايتها (ثنيّات) التي ألفناها في ثنيّات الوداع، إلى الفطام الأخير، والسجود والمبايعة في البيت الأخير، أما الإيحاء فهي لعبة الشاعرة المفضلة، وهذا ديدن الشعر، وبكثير من الدهاء تنادي بالثورة لكن في الشعر لا في الشارع، فإذا انتقلت إلى الوطن اكتفت بدعوة الخلاص وتعميد الشهداء.
د. علي بن تميم أشار إلى أن في القصيدة قدراً كبيراً لا يُخفى من الإحساس بالأنا في البداية والنهاية، وهذه الأنا في هذه القصيدة اضمحلت مع الرومانسية، وفي البداية ثمة شعور بالتفرد والإلهام العلوي، فجاءت عبارة (ثنيّات المُنى) على غرار "ثنيّات الوداع"، وحضرت البردتين، بردة كعب وبردة البوصيري، وفي النهاية هناك استعارة لما قاله عمرو بن كلثوم (إذا بلغ الفطام لنا رضيع/تخر لها الجبابر ساجدينا)، ليجيء الفعل (ألقِ) الذي خوطب به النبي موسى عندما ألقى عصاه مصحوباً بثلاثة أفعال أخرى وهي (دقي النواقيس، خوني القواميس، ثوري على الشعر الحرام)، ولو أنه – أي د. بن تميم - يعتقد أن الشعر الحرام هو الذي تتشح به الشعرية التي تنطفئ في الشعر الحلال.
ثم أشار د. بن تميم إلى وجود أفعال في القصيدة تصوّر للمتلقي بأن الشاعرة ترغب بصناعة شعر جديد وحياة جديدة، لكنها لم تستطع تحقيق ما وعدت به من تجاوزات، لأنها وقعت بين الفحول، ونسيت أن تستلهم من الشاعرات.
أمّا بالنسبة لإيقاع القصيدة فقد ذكّر د. علي بإيقاع قصيدة دوريش "سنةٌ أخرى فقط"، والتي قال فيها: (ولنا حَقّ بأن نشكر هذا الزَغَبَ النامي على البطن الحليبيِّ وأن نكسر إِيقاع الأغاني المؤمنة)، مضيفاً: إن كان درويش قد تمسّك بالأرضي؛ فما أشدّ تعلق ابتهال بأهداب الدين، كما في المفردات (بردتين، مئذنة، عصاي، أطهر، باركتها، نواقيس محنصنة، مؤمنة، توضأت)، وتلك نوايا طيبة، لكن النوايا الطيبّة لا تصنع شعرية طيّبة ولا تقود إلى التجاوز.
من جانبه وجد د. عبدالملك مرتاض أن ابتهال أسقطت اسمها الديني على شعريتها في النص، حيث وجد في كل الأبيات ألفاظ دينية، موضحاً أنه بهذا النقد لا يمدح ولا يقدح، إنما يتحدث عن واقع، كما في (حرام، حلال، محارم، صلاة، سجود).
وقد أعجب د. مرتاض البيت الذي تقول فيه ابتهال: (كحلي دمي الشهداء والنيلانُ خُمْرةُ أحرفي/صوتي يعمّقُ في تراتيلِ النّداءِ الأنسنة)، موضحاً أن الأصل هي الخِمْرَة، فالمثل العربي يقول (العَوَان لا تَعلَّمُ الْخِمْرَةَ)، أما الخُمرة فهي السجادة، ولهذا يجب ألّا تضم الخاء إنما تُكسر، وكذلك البيت (خضَّبتُ ناصِيةَ السَّماءِ ولن يضيقَ البحرُ بي/ سمراءُ قد وُلِدت على بَاب الضِّياءِ مُعنْونَةْ)، حيث حاولت الشاعرة الخروج من اللغة الدينية، لكن لو قالت الألسِنة في تراتيل النداء لكان أفضل، لكن المشكلة أن كلمة الألسنة جاءت في آخر القصيدة في البيت (أرِني فِطاماً خرَّت الأسْماعُ قبل بلُوغِه/سجَدتْ لهودَجِهِ الحَياةُ وبايعته الألسِنَةْ)، ومع ذلك فإن النص كان في شغله جهداً وتفنيناً وتصويراً وتألقاً.
سعد جرجيس.. "سيرة الذي رأى فجرَ الرِّمال"
بعنوان "سيرة الذي رأى فجرَ الرِّمال" ألقى الشاعر سعد جرجيس نصه، والذي هنأه عليه د. عبدالملك مرتاض، بقوله: "هكذا يا سعد تورد الإبل، فقد قدّمت نصاً شعرياً يليق بالمسابقة وبمستواها، تتناص فيه مع أحمد شوقي ومحمود درويش، وأعتقد أن ذلك قد يكون لصالحك. وقال جرجيس في الأبيات الأولى من النص:
ومرَّ على صدرِ مغتربِ سلامُ على النّخيلِ مع المَغرِبِ
وألقى بدربِ الرّجوعِ ظِلالاً ونادى غيومَ الزّمانٍ اذهبي
إلى أرضِ بغدادَ ما زالَ فيها سلامٌ قديمٌ وفجرُ نَبي
هو البحرُ أدركتُ أسرارَهُ بأصواتِ غرقى تسافرُ بي
عبرتُ وفي شجرِ الرّوحِ دمعٌ وفي البحرِ طفلٌ بلا مركبِ
أنا ما أضعتُ هديلَ الزّمانِ ولا عبقاً من زُروعِ أبي
د. علي بن تميم تحدّث عن القصيدة، وقال إنها مكونة من ثلاثة أجزاء، السلام الذي يهب على صدر مغترب فيردّه إلى بغداد، ثم العلاقة بين البحر ومعرفة أسراره وعبوره، وكذلك الحديث عن احتلال بغداد، وهي قصيدة منبرية خطابية استدعت نصاً منبرياً لمحمود درويش "سجل أنا عربي"، الذي رفض إلقاءه بعد خروج من فلسطين، أما إيقاع قصيدة سعد فيذكّر بإيقاع قصيدة أحمد شوقي، (أَلا حَبَّذا صُحبَةَ المَكتَبِ/ وَأَحبِب بِأَيّامِهِ أَحبِب)، وخاصة عندما يقول سعد: (أصافح رَمْلَ البلادِ فتسعى/ إليَّ قصائدُ لم يُكتبِ)، وتذكر بقول شوقي (قَدِ اِنصَرَفوا بَعدَ عِلمِ الكِتابِ/لِبابٍ مِنَ العِلمِ لَم يُكتَبِ).
كما ذكّر د. بن تميم بما جاء في قصيدة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم؛ بإيقاعها وبقافيتها العذبة وهو يرسم ملامح الراحل الشيخ زايد "رحمه الله" (نَمْ قَريرَ العينِ بَعْدَ التَّعَبِ / يا أبي الأكبرَ مِنْ بَعْدِ أبي... أنْتَ ما كُنت لشعبي قائداً / بلْ زَعيماً لجميعِ العَرَبِ... مَلَكاً كُنت لنَا لا مَلِكاً / في تُقَى شيخٍ وأخلاقِ نَبي)، وقد أحسن سعد – كما قال د. بن تميم - عندما ذكّر بتلك القصيدة خاصة وأن الإمارات تعيش شهر القراءة. كما أحسنت المقدمة لجين حينما ذكّرت بأبيات محمد بن راشد (لنا الصَّدارَةُ في عِلْمٍ وفي عَمَلٍ/في كُلِّ يومٍ لنا مَجْدٌ ومُفْتَخَرُ)، وهو الذي حوّل الشهر إلى حدث كبير، فجعل فيه: تحدي القراءة، وجائزة الفنون، وجائزة اللغة العربية، ثم رفع تحية لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد المتفاني لإبداعه ولثقافته ولتفانيه في خدمة الثقافة العربية، وذلك عبر أبياتٍ من قصيدة الشاعر أحمد شوقي "ألا حبذا صحبة المكتب".
وقال د. عبدالملك مرتاض: كان سعد بفضل هذا النص جديراً بالاعتزاء إلى منظومة الشعر العراقي، وظهر ذلك في الحركة الإيقاعية المستفزة التي تمنح الشعرية خفة وإيقاعاً موسيقياً أثيراً. كما أشار إلى أيأس بيت وأحزنه في النص، والذي تجلّى في (عبرتُ وفي شجرِ الرّوحِ دمعٌ/وفي البحرِ طفلٌ بلا مركبِ)، قائلاً: إن النص يجسم وضع العراق المعاصر، وهو الذي تعرض للحرب والنهب والعدوان من مختلف الدول والبلدان، لكن بلغة شعرية دافقة تنساب كالماء الخرير.
وأضاف الناقد أنه سعيد بالقصيدة لأن الشاعر عاد إلى حضن السياب، ولو أن شعوراً انتابه بأن النص مستلُّ من نص أطول، ولعل ما فيها من تدفق هو ما يشي بذلك.
وأردف د. فضل بأن الشاعر في أبياته يوجه نداء العودة للعراقيين، ووصفه بأنه نداء جميل وضروري عندما ينشد لبغداد (سلامٌ قديمٌ وفجرُ نَبي)، لأنها كانت مدينة السلام، وبهذا الاسم تؤلف لها الكتب، ثم يذكر الشاعر العبور بقوةٍ كما في البيت: (عبرتُ وفي شجرِ الرّوحِ دمعٌ/وفي البحرِ طفلٌ بلا مركبِ)، والبيت (أنا ما أضعتُ هديلَ الزّمانِ/ولا عبقاً من زُروعِ أبي).
لكن ما لفت نظر د. فضل البيت (تَقومُ قِيامةُ هذي الرّمالُ/إذا داسَ أحلامُها أجنبي)، ومنه فهم أن الشاعر لا يقصد الأمريكيين فقط، إنما الفرس كذلك، داعياً د. صلاح العراقيين إلى تخليص وطنهم من الطائفية والتبعية، كما دعا الشاعر إلى الهتاف بأعلى من صوت درويش (سجل أنا عربي) فالعراق بحاجة لاستعادة هويته العربية الحقيقية، وختم بالقول: إن القصيدة مظفرة.
شيخة المطيري.. "سبعٌ عِجاف"
نص "سبعٌ عِجاف" ألقته الشاعرة شيخة المطيري، وقد دلّ د. علي بن تميم على ما فيه من قوة في السبك، ومن أساليب شعرية متميزة، وأضاف بأن القصيدة بمجملها هي سبعٌ نديّات. ومن الأبيات الأولى للقصيدة قالت شيخة:
سبعٌ عجافٌ واكتملنَ على فمي من أينَ للطّينِ التّوجعِ يا دمي
والطّينُ أسرفَ في الكلامٍ وليتَني أبقيتُ بعضَ حقولِهِ في معصمي
هل لي ببعضِ الماءِ؟ بعضي متعبٌ والماءُ مِن بدءِ القصيدةِ مُلهمي
سبعٌ عجافٌ والحروفُ تلوكُني وتقولُ يا أنثى الحروفِ تكلّمي
وأنا ولي سبعونَ قافيةً هنا آويتُ فيها رعشتي وتلعْثُمي
وأتيتُ بحْرَك أستغيثُ بموجِهِ فركبتُ موجَ غيابِك المتلاطمِ
البحرُ يدركُ أنّنا لسنا هنا إلّا ظِلالَ حكايتين لهائمِ
بدأ د. عبدالملك مرتاض من تجسيد القصيدة لملحمة الطين، حيث اشتغلت الشاعرة على الطين وكأنها خزّافة، فالطين منه خُلقنا وإليه نعود، فهو يمثّل الأرض التي تمثّل بدروها الحياة والخصب، وبدا له أن هذه القصيدة أجمل وأحسن وأشعر من قصيدة المرحلة السابقة، ولكأن فيها شيئاً من التناص العام مع معلقة عنترة وخصوصاً في قوافيها، وهو استحضار فني واعٍ، وقد بلغ التصوير ذروته بقول شيخة: (وأتيتُ بحْرَك أستغيثُ بموجِهِ/فركبتُ موجَ غيابِك المتلاطمِ). أما قمة البلاغة والجمال فتتمثلان في البيت: (أوَ كلّما خاطَ القصيدُ عباءةً/ألبستها غيري وقلت: تقدّمي).
وأشار إلى أن أول من استعمل (أوَ كلَّما) الشاعر طريف بن مالك العنبري في بيته (أو كلَّمَا جاءتْ عُكاظَ قبيلةٌ/بعثُوا إليَّ عريفَهُمْ يتوسَّمُ)، ومع ذلك وقعت الشاعرة في النظمية في البيت ما قبل الأخير (وتمرُّ بالطّينِ المسافرِ في دمي/الطينُ أوجعهُ غيابُك فاعلم)، لكنه يغتفر لها بجانب القصيدة الكبيرة التي قدمتها، فشيخة تدبج الشعر، وتزخرفه حتى يصير شذى وأريجاً وتؤنقّه وتنغّمه وتعطّره حتى يرتدّ سحراً بهيجاً.
فيما قال د. صلاح فضل: إن شيخة تجسد في القصيدة حالة شعرية بالغة الرهافة والدقة والجمال، فهي تستعير حالة التكوين الحلمي الأول في قصة يوسف لتوظفه رمزاً شعرياً، وتعمل على عقد شفرته السرية، فيمتزج لديها الخلق البشري بالطين والماء بالخلق والإبداع، ليعبر عن أوجاعه المكتومة والمكلومة.
كما وجد الناقد تجانساً جميلاً بين ماء الكلام وبحر الشعر وموج غياب المعنى، وفيه يرفع مستوى التعبير الفني. أما رجفة التواضع التي تهمّ د. فضل؛ والشعور بالحصر والتلعثم، والاستغاثة بالغة الرّهافة، والصدق في تمثيل الحالة الشعرية؛ فمن خلالها شهد في القصيدة انشطار الذات إلى حكايتين لهائمٍ واحدٍ يخاطب نفسه قائلاً: (لكن قلبكِ لم يكنْ يوماً معي/إلّا خيالاً في خيالِ متيّمِ)، والبيت (أوَ كلّما خاطَ القصيدُ عباءةً/ألبستها غيري وقلت: تقدّمي)، والبيت الأخير (لا تسقني ماءَ القصيدةِ إنّني/آمنتُ بالحجرِ الرّقيبِ على فمي) الذي تستحضر فيه بيت أبي تمام. وختم بالقول: إن القصيدة مرهفة وعميقة وصادقة، تمزج ماء الكلام بخمر الشعر وتصل إلى قلب المتلقي.
ومن العنوان "سبعٌ عِجاف" صور د. علي بن تميم القصيدة بأنها حُبسة الكلام، تقوم على الصراع بين مفردة الطين التي ترد أربع مرات، والماء الذي يرد ثلاث مرات، والبحر الذي يرد مرّتان، فيرمز الطين إلى السنوات العجاف الخالية من الإبداع، ويرمز الماء إلى الحياة والتجدد، فيما تشير القصيدة إلى غياب الحبيب والحرية، فماء الشعر وموهبته لا يكفيان (لا تسقني ماءَ القصيدةِ إنّني/آمنتُ بالحجرِ الرّقيبِ على فمي)، فتعبّر الشاعرة بحرية عن القيود التي تحبس الأنفاس، لكن عليها ألّا تستسلم لها باعتبارها تمنع الإبداع، فمن الحجارة ما يتشقق ويخرج منه الماء، وعنترة كان هو الحجارة، لذا على الشاعرة أن تتمرّد عليه وتتصل بولادة ولّادة بنت المستكفي.
مبارك سيد أحمد.. "ولدت فيك"
رابع شعراء الأمسية مبارك سيد أحمد الذي ألقى نصاً بعنوان "ولدت فيك"، وقد رأى د. عبدالملك مرتاض أن مبارك أشعر في التفعيلة من العمودي. ومما جاء في الأبيات الأولى من النص:
فيها أرى شيئاً، وفيهِ أراني
ينأى عنِ التّوضيحِ والّبيانِ
كالحبِّ لم يسألْهُ قبليَ شاعرٌ
عن سرِّ مشيَتِهِ مع الغُفرانِ
كدعاءِ أمّي إذ تلوّحُ كفَّهُ
خلفَ امتارزاتي عنِ الأقرانِ
كقطارِنا المنكوبِ وهو يقولُ لي
كمْ منْ حريقٍ فيكَ دونَ دُخانِ
نفسُ الأسى الشّرقيِّ ألمحُ ذيلَهُ
ببكاءِ كلِّ مشرّدي الأوطانِ
يا مَن على يَدِها استَعدتُّ طفولَتي
فدَنَا الغمام إليَّ مِنْ تَحْناني
وبعد انتهاء الشاعر من إلقاء نصه؛ أكد أن د. صلاح فضل أن الشاعر يتذرع في نصه بشيء من المباشرة، ومع أنه ينشد بأن يكون بمنأى عن التوضيح والتبيان إلا أنه وقع بهما كما في قوله (امتيازاتي عن الأقران) وغير ذلك. أما الإشارة إلى حادثة القطار الأليمة والموجعة؛ فجاءت مباشرة وعرضية ومجانية في ثنايا التشبيه.
ورأى د. فضل أن الشعراء دائماً يتذبذبون بين مستويات مختلفة، وعليه فقد علا سيد أحمد في المرة السابقة، إلا أنه هبط قليلاً في هذه المرة، وهو – أي د. فضل – لا يلومه لأن ذلك من طبيعة الشعر والإبداع. ومع ذلك في القصيدة لمحات وضيئة، مثل (وغَدَت حياتي في عيوني ركعةً/لا شيء ينقصها سوى الإيمانِ)، وفي البيت ملاحظة ثاقبة وجميلة، وكذلك البيت الأخير (بي مِنكِ شيءٌ لنْ يُفارِق أحرفي/أحتاجُ كي أنسَاهُ أن أنسَاني)، وهذه موفق جداً.
أما د. علي بن تميم فقد أخذ على الشاعر تجاوزه شروط المسابقة فالمطلوب ما بين ثمانية أبيات وعشرة أبيات، ومع ذلك فإن جمال النص يتركّز في المفتتح والخاتمة، وما فيه من حلولٍ وتماهٍ كما فعل الحلاج حين قال (أنا مَنْ أهْوى وَمَنْ أهْوى أنَا نَحنُ رُوحانِ حَلَلْنا بَدَنا).
وفيما يتعلق ببقية الأبيات فهي تفصيلات في ذاك التماهي، إذ رأى د. بن تميم أن القصيدة هي قصيدة الفكرة الواحدة، لكن الضعف في صياغة الجملة الفعلية يشوبها كما في (عن سرِّ مشيتهِ مع الغُفرانِ)، و(خلفَ امتيازاتي عن الأقرانِ)، ومبارك يقصد التّفوّق، لكن عليه ألّا ينسى أن التّفوّق هو امتيازٌ للمجرمين، كما في قوله تعالى {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}.
ووجد د. بن تميم أن النص مثال على ضمور المعنى الشعري الذي ولّد فراغاً في حركِّيته، غير أنه في المقابل رأى البداية جميلة (فيها أرى شيئاً، وفيهِ أراني/ينأى عنِ التّوضيحِ والّبيانِ).
من جانبه أوضح د. عبدالملك مرتاض أن الشاعر وقع في التناقض في البيتين السادس والسابع (وبِهجرِها أمسَى فؤادي واحةً/خضراءَ في رسمٍ على جُدران)، (وَغَدَت حياتي في عُيوني ركعةٍ لا شيءَ ينقُصُها سوى الإيمانِ)، في حين اتفق د. مرتاض مع د. فضل حول البيت الأخير من النص، فهو الأجمل، وإن كان مبارك قد أفسده بمفردة (أحتاج) التي تتعدّى بـ(إلى)، وبمفردة (أنساني) غير الصحيحة نحوياً، فالفعل المتعدي يجب أن يكون متعدياً لفعلين، مثل وجدتني، رأيتني.. وأضاف بأن أجمل صورة وردت في النص تجلّت في البيت الخامس (نفسُ الأسى الشّرقيِّ ألمحُ ذيلَهُ/ببكاءِ كلِّ مشرّدي الأوطانِ).
هاني عبدالجواد.. "اتّكاءٌ على ظِلالِ شجرةِ الغاف"
ولوقتٍ مستقطع للبشرية عند شجرة الغاف والتي اتُّخذت رمزاً لعام التّسامح في الإمارات لهذا العام؛ قدم الشاعر هاني عبدالجواد قصيدته "اتّكاءٌ على ظِلالِ شجرةِ الغاف"، والتي عقب عليها د. علي بن تميم بقوله إنها أول قصيدة في "أمير الشعراء" على وزن المنسرح، وأول قصيدة في "أمير الشعراء" تستدعي إيقاع ووزن قصيدة الشاعر محمود حسن اسماعيل "النهر الخالد" التي غناها محمد عبدالوهاب (مسافرٌ زادُه الخيالُ والسَّحر والعطرُ والظّلالُ). أما هاني فقد قال في قصيدته:
بكلِّ ما تُؤخَذُ العقولُ
يقالُ لي؛ لستُ من يقولُ
وراءَ عيني مدارجٌ مِن
رؤايَ؛ تعدو بها الخيولُ
طفلٌ أنا لستُ غيرَ طفلٍ
مشاغبٍ ذنبُهُ الفضولُ
وكمْ تسلَّلتُ نحوَ نفسي
فممكنٌ بي ومستحيلُ
الحبُّ والرّوح والطّلولُ
واللهُ والفنُّ والشَّمولُ
للماءِ حدسُ اختراعِ نهرٍ
ونحنُ من حدسِنا نسيلُ
د. علي وبعد إشارته إلى أن هاني تحاوز شرط عدد الأبيات، حين ألقى اثني عشر بيتاً، ومع ذلك أكّد أنها القصيدة الأولى في المسابقة من ناحية كونها تستدعي شجرة الغاف منطلقاً للتغزل بها، فتتوقف القصيدة عند لغة ظلال الغاف، والظلال ليست للجبناء إنما للشعراء الذين يتقنون مراوغة المعنى مثل هاني.
ثم علّق د. بن تميم على جمال البيت (للماءِ حدسُ اختراعِ نهرٍ/ونحنُ من حدسِنا نسيلُ)، لتعكس القصيدة ظلال الغاف بقدرتها على التسامي، خاصة وأن الظلال تتكلم فيها. فهي الخيل والحب والروح والفن والشراب والرسالة والأنا والآخر، كما يحضر أبو الطيب في القصيدة حين يقول (نَحْنُ أدْرَى وَقد سألْنَا بِنَجْدٍ/أطَوِيلٌ طَرِيقُنَا أمْ يَطُولُ)، وإن كان محمود حسن اسماعيل قد ربط النيل بالحياة؛ فإن هاني قد ربطه بالمحو وبالرحيل وبالتلاشي، معتبراً د. بن تميم أن القصيدة نموذج جميل لشعرية التأمل في ظلال الغاف، غير أننا بحاجة لحضور شجرة الغاف أيضاً.
فيما قال د. عبدالملك مرتاض إنّ هاني أرهق اللغة صَعودا، وإن أجمل ما في النص تشكيله الإيقاعي، واللعب بالألفاظ، والتفنن في النسج، وتوظيف المسكوت عنه في أكثر من بيت. والقصيدة تدلّ على أن هاني شاعر حقاً، استطاع توظيف الحيز الشعري، فجعل اللغة مثقلة به وحاملة له، ومتفتحة عليه، كما في البيت (وراءَ عيني مدارجٌ مِن/رؤايَ؛ تعدو بها الخيولُ)، ولو أن القصيدة من بحر المنسرح؛ إلا أن نفس المتنبي موجود، ورغم الملاحظات التي قدمها د. مرتاض والتي وصفها بأن بعضها لصالح النص والأخرى لغير صالحه؛ إلا أنه أهاب بالشاعر المضي في دربه، والسير على سنمه، فإن ملامح الشعرية وخصائها الفنية وطلائعها تبدو في شعره هذا أنضر وأجمل وأحلى وأجلى.
وختم الآراء النقدية د. صلاح فضل، فقال إن هاني قدم نصاً جميلاً، وإن لم بوضوح العلاقة بين الغافة رمز التسامح وبين تأملات الشاعر التي قصد قولها في ظلها. أما قول الشاعر إنه طفل، فهذه شهادة له بالشعر والفضول معاً، لكنه طفل يشاغب أكثر مما ينبغي عندما يجمع في بيت بين الله والخمر والفن معاً، وهذه جرأة. كما يتدفق بالشعر عندما يقول بطلاوة (للماءِ حدسُ اختراعِ نهرٍ/ونحنُ من حدسِنا نسيلُ). ويفتعل القول قليلاً عندما يقول (إذا عَبَرْنا إلى المّرائي/ففي الأنا يَسكنُ الرّسولُ) والذي يتناقض مع البيت (وكمْ صعدنا نخيلَ غيبٍ/فلمْ نرَ الغيبَ يا نخيلُ)، والتناص الضدي الذي أشار إليه د. علي في قول هاني (إنسانُنَا عابرٌ يغنّي:/(مسافرٌ زادُهُ) الرّحيلُ)، وهو بيت جميل على قسوته وظلمه للإنسان العربي الذي يتزوّد بالرحيل. وأخيراً قال د. فضل: التأملات واعية لدى هاني، والحالة الشعرية هادئة.
مجاراة بنت المستكفي ابتهال تريتر
أرَجّي غّيرَتي بيتاً فبيتا ومَا مِنْ عُقدةٍ حَبَسَت لساني
خِباؤك في دمي والعطرُ قانٍ ولي أبَديّتي ومعي زماني
تُرَتِّبني المسافةُ يا نداءً تبتَّلَ في انتظاراتِ الأماني
أنَا امرأةُ الوِصَالِ فصُمْ وَدَعْني فخيطي ابْيضّ من فرطِ ارتهاني
سعد جرجيس
إلى ولّادةَ الحبِّ المقفَّى سَأرْحَلُ تَاركاً قلَقَ المكانِ
لآخُذَ من حدائقِها صباحاً فإنّ العِشقَ من زمنٍ رهاني
سأجمَعُ من أغاني الحبِّ عمراً فكلُّ جميلةٍ فيها تَرَاني
فَلَولا الحبُّ ما انتصرتْ حياةٌ ولَا بَقيتْ أناشيدُ الزَّمانِ
شيخة المطيري
وكنْتَ خَبَأتني في بيتِ شِعْرٍ تُأوُّلُني بِذا النّقدِ المعاني
تقولُ سلالةُ الأعْرابِ إنّا هنا حلمانْ فجراً يجريانِ
أنا الأنهارُ ماؤك فارتشفني أيَا عَذْبَ الهوى لونَ الجُمانِ
أغارُ عليكَ ما لي غير هذا وعَذْلي ليسَ يُولعُ من هواني
مبارك سيد أحمد
غرستُكُ في عروقِ الرّوحِ حرفاً سيُورِقُ نُطقُهُ أحلى المعاني
فمِصرُ حبيبتي تاجٌ بِعَيني على رأسِ الأماكنِ والزّمانِ
أرَاها بيتَ شِعْرٍ لا يَضاهى فيهِ نَبَقَ الجمالُ على لِسَاني
لكلِّ الخلقِ في الدنيا أمانٍ وغيركِ لا أرى ليَ من أماني
هاني عبدالجواد
أكونُ ولَا كيانٌ في كياني مِثَالي بين أوتارِ الكمانِ
تَحرّي مَوْعدي أبداً لأنّي أنَا الموجودُ من قبلِ الزّمانِ
لماذا، كيفَ، أينَ، متى؟ سؤالاً تجاوبهُ النَّبيةُ في الأغاني
أنَا في كلِّ شيءٍ كُلِّي كُلِّي ولَكِن لَا أُرَى حَقَّ العِيانِ
من جهتهم أبدى أعضاء لجنة التحكيم إعجابهم بما قدم الشعراء، فبرهنوا من خلال أبياتهم على قوتهم ومهارتهم وقدرتهم على الارتجال، فأحدهم استمر في أبيات ولادة، وآخر استحضر صوت حبيبها، وثالث خاطب الوطن من خلالها، وتلك المواقف الشعرية تشهد بأنهم شعراء حقيقيون.
وفي ختام الحلقة أعلنت لجين عمران عن الشعراء الخمسة الذين سيشاركون في الحلقة السابعة، وهم: عائشة الشامسي من الإمارات، عبدالمنعم حسن محمد من مالي، سلطان السبهان من السعودية، علي حسن سلمان من البحرين، ودينا الشيخ من السودان.