كم أحترم تلك الدول التي لا تستسلم لماضيها، بل تجعله سلاحاً تشهره أمام كلّ من يحاول المساس بكرامتها، فتحاول النهوض، تتعثر لكنها تحاول النهوض مرة تلو أخرى، وتستمرّ في التقدّم والعطاء حتى تسترجع مكانتها وتَزُجّ باسمها في قائمة أغنى البلدان، من حيث متوسط الدّخل الفردي لمواطنيها. إنها سنغافورة التي تخلت عنها ماليزيا عام 1965 بعدما كانت جزءاً لا يتجزأ منها، تركتها تتخبط في فقرها، ما تسبّب في تعرّض البلد الصغير محدود الموارد إلى العديد من الأحداث الأليمة، أعقبتها مظاهرات وجرائم، جعلتها تصنّف حينها من أخطر البلدان المفتقدة للأمن والأمان. وشيئاً فشيئاً بدأت تستردّ عافيتها حتى تحسنت الأوضاع، لتصبح اليوم وبعد مرور 49 عاماً من الاستقلال، تنّين آسيا الذي يضرب به المثل في اعتلاء سلم النجاح، هي عمود الاقتصاد في العالم، وتستقبل سنوياً 16 مليون سائح.
سنغافورة في الأصل عبارة عن مجموعة جزر يصل عددها إلى 63 جزيرة، تقع في جنوب شرق آسيا، تحيط بها كلّ من جزيرة مالايو وجزر رياو الإندونيسية، ويفصلها عن ماليزيا مضيق «جو هور»، ويبلغ عدد السكان قرابة 5 ملايين وستمئة ألف نسمة، أغلبهم من المهاجرين، يمثل الصينيون نسبة 75% منهم، أما البقية فمن ماليزيا والهند ونسبة قليلة من المالاويين، يتحدثون لغات مختلفة: الإنجليزية، الصينية، والماليزية. أما العملة المتداولة فهي الدولار السنغافوري.
أصل التسمية
جاءت تسمية سنغافورة التي تمّ تأسيسها على يد الأمير سانج نيلا أوتاما، الذي فور اكتشافه للجزيرة، وحينما لمح فيها أسداً، أطلق عليها اسم «مدينة الأسد»، وهو المعنى الحقيقي لسنغافورة باللغة السنسكريتية. اتخذته الدولة شعاراً رئيسياً ورمزاً مهماً للمدينة منذ بداية الستينات، حيث ستشاهد فور وصولك إلى مركز سنغافورة تمثالاً شامخاً يتوسّط إحدى الحدائق النباتية الجميلة، يحمل رأس أسد بجسد سمكة، تتدفق من فمه مياه، يطلق عليه اسم «أسد ميرليون»، يمثل مدخل المدينة عند مصبّ نهر سنغافورة، تجد صوره في كلّ مكان حتى على الطوابع البريدية.
اعتمدت سنغافورة في نهوضها الاقتصادي، على التجارة الدولية في الأسواق الخارجية بشكل كبير، وعلى الصناعات الرئيسية وأهمها صناعة الإلكترونيات، كما تمّ اعتمادها دولياً لتصنيع معدّات حفر آبار النفط، وإصلاح السفن بمينائها القديم. إلى جانب تصنيعها للأدوية والموادّ الغذائية، ومنتجات البلاستيك.
حدائق أسطورية
على الرغم من صغر مساحة سنغافورة، وضمها لمجموعة صغيرة من الجزر، إلاّ أنها تتمتع بتربة خصبة، ذات مساحات خضراء شاسعة وحدائق غناء ساحرة، اعتبرها البعض جنة فوق الأرض، وسارع الكثيرون لامتلاك قطع الأراضي واستثمار المشاريع العقارية فيها، هي اليوم من أجمل وأغنى البلدان، يقطنها نخبة كبيرة من كبار المجتمعات المخملية الراقية، ومن شاهد فيلم Crazy Rich Asian’s سيعرف عن ماذا أتحدّث، لأنه يجسّد واقع سكان سنغافورة الحقيقي، غنى فاحش، نجح فيه المخرج والمؤلف الأميركي السنغافوري كيفن كوان، بترجمة الحياة الملكية التي خلفها الاستعمار البريطاني لسنغافورة في الماضي، والتي تتضح من خلال الأرستقراطية والبرجوازية العالية التي يتميز بها أفراد قصر العائلة المالكة.
محمية طبيعية
تضمّ «مدينة الأسد»، محمية طبيعية خلابة تدعى «بوكيت تيماه»، تمتدّ على مساحة 164 هكتاراً من الأراضي الخضراء، والأشجار الكثيفة، وتعتبر إلى جانب الحدائق الخلابة المنتشرة في سنغافورة، إضافة سياحية وعلميّة بالدرجة الأولى للبلد، من ضمنها حدائق «باي» التي تغطي مساحتها 100 هكتار من الأشجار والنباتات النادرة، تحيط بأكبر معهد للموسيقى في العالم، بقبتيه الزجاجيتين الساحرتين، تتخللهما غابات استوائية مطيرة ونباتات نادرة، تنتشر في محميتين يطلق عليهما «قبة الزهرة» و«غابة السحب»، فيهما أجمل أنواع النباتات العملاقة، نادرة الأصناف جيء بها من أماكن مختلفة من العالم. وتزينها منحوتات طبيعية ساحرة تجسد شخصيات تاريخية مرت على البلد الجميل. تحظى هذه الحديقة بشعبية كبيرة لدى السنغافوريين الذي يزورونها يومياً من أجل الاسترخاء، كما أنها منبع علميّ ومشهد ثقافيّ مهمّ، وخاصة بالنسبة إلى المدارس والمؤسسات التعليمية، حيث يرتادها الطلبة أسبوعياً وفقاً لبرنامجهم التعليمي، ما جعلها تُدرج منذ العام 1972 ضمن قائمة التراث الطبيعي لليونسكو، اليوم هي قبلة لأكثر من مليون سائح.
بؤرة عالمية
يمكنك في سنغافورة أن تختصر المسافات، وألا تفكر ربما في زيارة عدد من البلدان الآسيوية، لأنك ستجد معالمها في سنغافورة، فمدينة مثل شاينا تاون، أو الحيّ الصيني، تجعلك وأنت تزورها فعلاً في الصين، ليس بعدد السكان الصينيين الضخم الذين يقيمون في سنغافورة فحسب، بل بالطراز المعماري الذي شيدت به هذه المنطقة، وكأنها جزء من الصين، مثل سوق «تايبي» الليلي الذي يعجّ بالحركة، لما يضمه من محلات بيع الحرير، والإلكترونيات، والأجهزة التكنولوجية الحديثة. ولا تنس زيارة «مغارة علي بابا» إن رغبت باقتناء بعض التذكارات الجميلة من مشغولات وحرف يدوية وخزفية. كما يضمّ الحي الصيني معبداً هندياً جميلاً يدعى «سري ماريامان» تقام بداخله طقوس جميلة تجذب السائح الذي يستمتع كثيراً، بباحة المطاعم الموجودة على أطراف أرصفة الشارع، والمتخصصة في تقديم المأكولات الشرقية والآسيوية الشهية.
مهرجانات موسمية
يعكس تزاوج الثقافات الآسيوية واحتكاكها في سنغافورة، صورة ثقافية وحضارية متنوعة وجميلة، تتضح معالمها خاصة في المناسبات والأعياد والاحتفالات الكثيرة التي تقام فيها في مختلف المواسم، فنجد مثلاً «مهرجان السنة الصينية» الذي يقام سنوياً بين شهري يناير وفبراير، وتتخلله احتفالات تقليدية جميلة، تشبه «مهرجان شينجاي باراد»، وهو احتفال آسيوي بامتياز تتخلله احتفالات الأقنعة و(الشانجريلا) أي «التنين»، من الاحتفالات المقدسة في سنغافورة، يشارك فيه الكبير والصغير. فضلاً عن «مهرجان الفنون الدولي» بفعالياته الضخمة التي ترمز إلى قيمة الحضارة الآسيوية في العالم.