هناك تجارب إنسانية كبيرة تتخطى الممارسات البشرية المعهودة، وتتفوق عليها أيضاً. فتنتقل من حالة إلى حالة مضادة، لا شيء يفسرها إلا مسار الحياة والحب الذي يكنه المرء لها. فقد بدأت بالإنساني وانتهت بالروحاني الذي يعني التجرد المطلق من ماديات الحياة المؤقتة. ولدت رابعة العدوية في 717م، وهي رابعة بنات والدها الفقير، من هنا جاء اسمها. وفاة الوالد الذي لحقت به الوالدة جعلت العائلة تعيش في حالة عري كلي، ولا مصدر مالياً لها يمكنه أن يعيلها، إلا قارباً صغيراً تركه الوالد كان ينقل به الركاب من ضفاف أنهر البصرة. وعلى الرغم من صغر سنها، إلا أنها مارست مهنة والدها. فكرت أن تحترف الغناء نظراً إلى صوتها الجميل وإتقانها عزف الناي. لكن الزمن الصعب الذي عاشته منعها من ذلك. وعندما انتشرت المجاعة، ومست كل البيوت، غادرت العائلة المكان، وانفصل الإخوة عن بعضهم البعض، وتاهت هي في الأرض بحثاً عن سبل العيش، قبل أن يأسرها أحد اللصوص، طمعاً في مالها، لكنه عندما أدرك فقرها باعها لأحد التجار البصريين، من آل عتيق، الذي اعتبرها ملكه، فكان يغتصبها كلما شاء ذلك. هذه الحادثة عمقت كرهها لغطرسة الرجال. فقد تربت في بيئة فقيرة، ولكن متدينة مثل عامة العراقيين، مما كون لديها عمقاً روحياً كبيراً. وعلى الرغم من تقدم الكثيرين لها من أجل الزواج، إلا أنها رفضت لأنها كانت تعرفهم من عيونهم، لا شيء يهمهم فيها سوى جسدها. كانت ترى في الزواج سجناً وخضوعاً لإدارة لا سلطان لها فيها. وبدأت تنحو نحو حب من نوع آخر، لكن وجودها في حالة العبودية والتبعية للرجل الذي اشتراها لم يسمح لها بالتجلي. في الوقت نفسه تعرفت إلى رجال أحبوها لذكائها وعلمها، وسمحوا لها بالتخلص من التاجر أبي معتوق. من هؤلاء الصوفي البصري الكبير رياح بن عمرو القيسي الذي قربها إليه وأحبها حباً عالياً وسامياً. وبدأت تتلمس طريقاً آخر ملأها أملاً، فاكتشفت عالم الروح الذي يمكن للإنسان أن يسكنه ويحوله إلى قوة داخلية. فتبدّلت حياتها رأساً على عقب. هذا الحب الإلهي العظيم، جاء نتيجة انكسارات متتالية سرقت منها عفويتها وأنزلتها إلى درجة الأمَة. ثم التقت سفيان الثوري في البصرة، والذي فتح أمامها المزيد من القدرات لكشف مغلقات الروح الإنسانية، كما تعرفت بشكل أعمق إلى عبد الواحد بن زيد الذي تقاطعت معه في الكثير من قضايا الحياة. ثم خطبها بعد ذلك، وقد شاع اسمها كشاعرة، والي البصرة محمد بن سليمان الهاشمي، لكنها رفضته، في رسالة مشهورة: «أما بعدُ: فإن الزهد في الدنيا راحة البدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن، فهيئ زادك، وقدّم لمعادك، وكن وصيّ نفسك، ولا تجعل الرجال أوصياءك فيقتسموا تركتك، وصُم الدهر، واجعل فطرك الموت. وأما أنا فلو خوّلني الله أمثالك ما حزت وأضعافه فلم يسرني أن أشتغل عن الله طرفة عين، والسلام». لم تكن تريد حياة البذخ، لأنها تبعدها عن المسلك العشقي الذي اختارته. توجهها نحو أعماقها جعل منها شاعرة الروحانيات الأولى في البلاد العربية وقتها، في القرن الثامن الميلادي:
عرفت الهوى مذ عرفت هواك
وأغلقت قلبي عمن سـواك
وكنت أناجيك يا من ترى
خفـايا القلوب ولسنا نراك
أحبك حبين حب الهوى
وحباً لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراك
توفيت رابعة بعد أكثر من 80 حولاً، ودفنت في مسقط رأسها، بحسب رواية ياقوت الحموي.
إقرأ المزيد: