يجعلك تاريخ بعض المدن الأوروبية، تغوص في وحل الذاكرة، مستشعراً حواسك، لترحل بك إلى عمق حضاراتها وثقافتها، و«فاطمة» مدينة عُجِنت من التاريخ، وتشكّلت من الأساطير، لتصبح إحدى أبرز المدن شهرة في أوروبا، مدينة ذات طابع ديني متسامح، اسمها جميل مثل ماء وجهها، ويرمز إلى قدسية عميقة على أرضها، مدينة فاطمة في البرتغال، حيث يمتزج التاريخ بالأساطير مكوناً أجمل الحكايات والقصص عنها. تقع مدينة فاطمة على بعد حوالي 125 كيلومتراً شمال العاصمة لشبونة، بتعداد سكاني لا يتجاوز 8000 نسمة، يتحدث أغلبيتهم البرتغالية. تختلف الروايات والحكايات حول هذه المدينة، ما بين أساطير قريبة إلى الواقع، وخرافات من نسج الخيال القريب إلى متعة السّرد الروائي.
أميرة أندلسية
تعود القصة الحقيقية حول اسم المدينة، إلى أميرة أندلسية، يحكى أنه بعد سقوط غرناطة في القرن الـ15، والاستيلاء على قصر «آل سولتي»، تمّ سبي أميرة جميلة كانت تسكن في القصر، تدعى فاطمة، والتي كانت تملك ثروة كبيرة من الثقافة والأدب والعلم، إلى حاكم مدينة «أوريم»، الذي فتن بها وتزوجها بعد أن جعلها تعتنق الديانة المسيحية الكاثوليكية عام 1158، وغيّر اسمها من فاطمة إلى «أوريانا» نسبة إلى اسم المدينة أوريم. لكن اسمها، الذي يعود لاسم ابنة الرسول الكريم محمد، فاطمة عليها السلام، كان اسمها الذي تحبّ أن ينادوها به، فبقي في الذاكرة حتى يومنا هذا، ولم يُعرف آنذاك سبب وفاتها، ولا حتى مكان دفن جثتها، وتقول الروايات إن زوجها حاكم مدينة «أوريم» حزن حزناً شديداً على فراقها، مما جعله يصبح راهباً، واتخذ من المكان ديراً ويطلق عليه اسم فاطمة، الذي كانت تحبه احتراماً لذكراها.
عيد التجلّي
حتى تلك الأحداث، كانت مدينة فاطمة، عبارة عن قرية صغيرة تزين مساحاتها حقول، وبيوت ريفية لا يتجاوز عددها الثلاثين بيتاً، حتى جاء الـ13 من يوليو عام 1917، عندما خرج الرعاة القرويون الصغار إلى رحاب حقول القرية الخضراء، تسبقهم العصا، وقطيع الماشية من أجل إطعامها كعادة يومية لأهل القرية، وطريقة عيشهم، عندما استقروا تحت إحدى التلال في المراعي الفسيحة هناك تدعى تلة «لا كوفا دي إيريا»، ليعتلوا التلة رغبة في اللعب الطفولي البري، حينها برقت ولمعت أمام أعينهم كتلة من الضوء الساطع، يروى أنهم اعتبروه برقاً وأن الجوّ سيغيم، عندها همّ كل من «لوسيا»، و«جاسينتا»، و«فرانسيسكو» بالنزول من التلة، لكن النور الساطع عاد للظهور من جديد، ولكن في المرة تلك تجلت لهم بين هالة الضوء، سيدة جميلة ترتدي ثياباً بيضاء وفي يدها مسبحة طويلة، وحدثتهم فيما يرى النائم أو الحالم أنها السيدة العذراء، وأنها هناك لمباركتهم، ودعتهم للصلاح والتقرب من الربّ، وفشت لهم أسراراً أخرى بقيت حبيسة في صدورهم، لا أعرف كيف كان ردّ أولئك الفتية الصغار، الكثيرون منهم لم يصدقوا روايتهم واعتبروها مزحة طفولية بريئة، فنُسي الأمر.
حادثة أسطورية
شهور تمرّ على الحادثة الأسطورية، حتى حلول اليوم الـ15 من شهر أكتوبر، من السنة نفسها، عادت السيدة العذراء كما روى الفتية للتجلي أمام أشخاص غيرهم من القرية، ما كان كفيلاً بقلب كيان القرية الصغيرة وسكانها رأساً على عقب، وقد كتبت حينها صحيفة «لشبونة» عن ظهور السيدة العذراء في تلك القرية النائية الصغيرة، انتشر الخبر بسرعة البرق، وأصبح يزورها الكثير من البرتغاليين، متمنيين ظهور وتجلي المرأة الطاهرة لهم، وحدث ذلك ست مرات متتالية، آخرها استقبلت فيه القرية الصغيرة حوالي 70 ألف شخص قدموا إليها من أجل المباركة واحتفالاً بالقديسة، وعليه قررت حكومة البرتغال تخصيص 13 يوليو و15 أكتوبر من كلّ سنة، للاحتفال بعيد «التجلي»، وهو الأمر الذي جعل كلاً من إيطاليا وإسبانيا والبرتغال تتفق عام 1928، على بناء كاتدرائية أطلق عليها اسم كاتدرائية «نوتردام فاطمة»، وتعتبر رابع أكبر كنيسة في العالم، وتمّ اعتماد تاريخ 13 يوليو و15 أكتوبر من كلّ سنة للزيارة المقدسة، يحجّ ويَفِد إلى المدينة مجموعات لا تعدّ ولا تحصى من السياح، والزوار الكاثوليكيين.
كنيسة فاطمة
كما حملت الكاتدرائية فيما بعد اسم «كنيسة القديسة فاطمة» نسبة لتسمية المدينة. وقد شهدت في بداية الثمانينات الزيارة الأولى للبابا جون بول الثاني، وتوالت بعدها زيارة البابوات الذين يأتونها من كلّ فجّ للصلاة وطلب الغفران، آخرها كانت زيارة البابا فرنسيس في الذكرى المئوية لعيد التجلي، في مايو من عام 2017، حينما صلىّ للسلام العالمي، نقلت هذا الحدث قنوات التلفزيون، في مشهد تخشع له الأبصار، رفعت فيه التراتيل وقرعت الأجراس، وحضره عشرات الآلاف من المصلين، متضرعين وطالبين القرب إلى الله، ومشعلين الشموع نذوراً، ومباركة للأخت «لوسيا دي خيسوس دوس سانتوس»، وهي الطفلة الثالثة من الرعاة، كانت تعمل في الكنيسة راهبة، وعاشت حتى عام 2005، حينما وافتها المنية عن عمر يناهز 96 عاماً، أما ابن عمها فرانسيسكو وشقيقته جاسينتا، فقد خطفهما الموت مبكراً إثر إصابتهما بمرض عضال.
المزار المقدس
ستشهدون عند زيارتكم لكاتدرائية «القديسة فاطمة»، التي تعدّ من أبرز المعالم السياحية ذات الطابع الديني والثقافي في المدينة، والبرتغال، ساحة كبيرة، يطلق عليها اسم «المزار المقدس»، يزينها من اليمين نصب رخامي ناصع البياض، يحمل فسيفساء أسطورية جميلة، ترمز إلى التجلّي الأول لتلك المرأة ذات الرداء الأبيض، تقف فاتحة ذراعيها يقابلها ثلاثة صبية، يطبقون على كفوفهم في حالة ورع وخشوع. يمكنكم الاستعلام عن قصة الأطفال داخل الكنيسة حيث تمّ دفنهم، ستجدون زخماً من المعلومات الجميلة المدونة على قطع رخامية، في قلب الكنيسة الضخمة.
قلعة التجلي
ستستغرق زيارة مدينة فاطمة منكم الكثير من الوقت، فعلى الرغم من صغر مساحتها غير أنها تعجّ وتكتظ بالمعالم الأثرية، التي تكشف عن كنوز تاريخية تعود لآلاف السنين، لا تنسوا زيارة «قلعة التجلي»، التي تتربع فوق التلة التي بزغ منها نور السيدة العذراء للأطفال الثلاثة، تجاور القلعة ذات الأسوار المنيعة شجرة ضخمة تمتدّ جذورها إلى عصور بعيدة. عند الانتهاء من زيارة القلعة، ستأخذكم أقدامكم إلى كنيسة جميلة ذات طراز باروكي تحمل اسم «الثالوث المقدس»، وتجاورها كاتدرائية «السيدة الوردية» التي بنيت حديثاً عام 2004، وتتسع مقاعدها لـ8000 شخص.
أما زيارة متحف «انتناتيفو»، فهي ممتعة، حيث يعرض من خلاله شريط تسجيلي وثائقي حول تاريخ القرية الصغيرة منذ مجيء الأميرة الأندلسية إليها، مروراً بمراحل مهمة ومتسلسلة، وصولاً إلى تقرير رمزي ومختصر عن حادثة تجلي السيدة ذات الرداء الأبيض وموضحين بذلك اللغط الذي دائما ما يحدث حول تسمية المدينة وظهور السيدة العذراء، حيث حملت المدينة اسم الأميرة، قبل ظهور السيدة العذراء بزمن.
المغارة العجيبة
ستأخذكم الدهشة عند زيارة مغارة «لامويدا»، وكأنكم تزورون مغارة جعيتا في لبنان، ستلاحظون التشكل الصخري الذي يشبه التشكل الكلسي في المغارة نفسها، تشكلات كلسية اتخذت أشكالاً عجيبة قريبة إلى شكل البشر. تمّ اكتشاف الكهف أو المغارة عام 1971، من قبل صديقين أثناء مطاردتهما لثعلب خلال رحلة صيد. يبلغ طول المغارة 350 متراً، أما عمقها فيصل إلى 45 متراً، يمنع فيها التقاط الصور، ويوجد فيها بحيرة صغيرة يتم رمي عملات نقدية معدنية فيها، وطلب الأمنيات بعدها. وتوازيها في عمق الجمال مغارة «ميرا دل آيري» التي تقع على بعد 15 كيلومتراً من وسط المدينة، تم اكتشافها عام 1947، تتربع على مساحة 11 كيلومتراً، وتتخللها طرق ملتوية، عليكم توخي الحذر عند زيارتها، اعتبرها البرتغاليون إحدى العجائب السبع الموجودة في البلد.
أما متحف الشمع الموازي لدير «المسيح» الذي تمّ إدراجه مؤخراً ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو،، فعليكم أن تنتظروا طوابير طويلة؛ من أجل التمكن من الدخول وزيارة ما يحويه من عجائب، وشخصيات ترمز إلى صليب المسيح، والسيدة العذراء مشمعين بأشكال تكاد تكون حقيقية، من شدة جمالها.