عند كل صباح تشرق الشمس المغربية فيه على البلاط الملون لـ«مكتبة القرويين» في فاس، تضيف إليها خيطاً منيراً من إشعاع التاريخ الحضاري والتراث الإنساني، وبعراقة مقتنياتها من الكتب النادرة تقف شامخة ضد الغياب متحدية الزمن، ومصدراً لسحر الثقافة والرهان على المعرفة.
ارتبط اسم «مكتبة القرويين» بالجامعة التي أسستها فاطمة بنت محمد الفهري عام 859م، وهي ابنة تاجر ثري من القيروان التونسية، جاءت للعيش في فاس، فقررت بناء جامعة مع مكتبتها الخاصة بها، لنفسها وللمفكرين في عصرها، فأصبحت أقدم مؤسسة للتعليم العالي في العالم، بحسب تصنيف المؤرخين الذي أكدته مؤخراً «موسوعة جينيس للأرقام القياسية»، ومن أشهر خريجيها المؤرخ ابن خلدون والأندلسي ليو أفريكانو، ثم عزمت بنت الفهري على بناء «مسجد القرويين» الشهير، ليصبح فيما بعد أول معهد ديني وأكبر كلية عربية في بلاد المغرب الأقصى.
عمارة مميزة
تقع المكتبة التي تعرف بـ«الخزانة»، ضمن حرم جامعة ومسجد القرويين، وتعتبر من أعرق المكتبات في العالم، ويعود تاريخها للقرن الـ14 الميلادي، وقد بنيت على يد السلطان أبي عنان المريني (1329 –1358م) وقد اختارتها منظمة «اليونسكو» ضمن قائمة التراث العالمي الإنساني، وقد مرت بمراحل عدة من التغييرات والتطورات حتى وصلت إلى شكلها الحالي، ومبناها المحاذي للمسجد الذي يجمعها معه سقف من القرميد الأخضر، تم تجديده مؤخراً، وتميز معمارها بفنون الزخارف الإسلامية المزينة بالجبس وأبواب الخشب المنقوش.
كتب ومخطوطات
تحوي المكتبة اليوم 4 آلاف من النصوص والمخطوطات القديمة والكتب المهمة، أثمنها نسخة لمصحف يعود للقرن التاسع الميلادي، مكتوب بماء الذهب على ورق الغزال وبخط كوفي قديم، ونسخة من كتاب «العبر» لابن خلدون، بخط يده، أهداه إلى المكتبة حين كان يدرس في فاس، ومن بين نفائسها كذلك إنجيل مكتوب باللغة العربية يعود للقرن الـ12 الميلادي، إضافة إلى مجموعة من المطبوعات الحجرية القيمة والنادرة، والتي يقدر عددها بحوالي 600 مطبوعة، وكان الاحتفاظ بأكثر الكتب قيمة في المجموعة يتم في غرفة خاصة ذات أربعة مفاتيح منفصلة، تسلم لأربعة حراس مختلفين، وكان يتعين عليهم جميعاً الحضور لفتح أبوابها.
وثائق نادرة
تغلب على مخطوطات المكتبة المواضيع المرتبطة بالعلوم الشرعية، حيث يتوافر بها العديد من المصاحف والتفاسير وكتب الفقه والحديث والأصول، إلى جانب مخطوطات تشمل تخصصات عدة منها الطب والرياضيات والجبر وعلوم الفلك والفلسفة والشعر والأدب والتاريخ والسير والرحلات وغيرها من الفنون. وتحتضن رفوف المكتبة كذلك «أرجوزة في الطب» لابن طفيل تعود للقرن الـ12، وفيها مخطوطات لابن سينا ونسخة في الفلك بشرح الفارابي، ومخطوط لكتاب «الأخلاق» لأرسطو، وهي النسخة الوحيدة المترجمة إلى العربية، إضافة إلى رصيد هائل من الوثائق النادرة، والكتب بعضها يعود لحوالي 150 سنة.