البروفسور في جراحة الدماغ والأعصاب ورئيس مركز علاج أمراض العمود الفقري في مستشفى «بلفو» الدكتور نبيل عقيص، واضح في ما يقول: «لو عدتُ إلى الوراء 20 عاماً، لامتنعت عن إجراء نحو 50% من الجراحات». اعتراف يستحق المتابعة.
يواصل جراح الدماغ والأعصاب حتى اليوم إجراء الجراحات، لكن بعدد أقل بكثير من قبل. هؤلاء يحتاجون إليها فعلياً، أما المريض الذي يشعر بألم في الرقبة أو في الظهر ويثبت، حسب الطب الجديد المتبع، أنه يحتاج إلى أن يتعلم كيف يتعامل مع حياته أكثر مما يحتاج إلى جراحة، فتُتبع معه جلسات اليوغا والتدريب والرياضة والجلسات النفسية - الاجتماعية، قبل أن يصدر في حقه حكم الجراحة.
الجراح عقيص واجه حالات كثيرة تعلّم منها، ويشرح: «هناك حالات خضعت لأفضل العمليات، بظروف ممتازة، لكن أصحابها مازالوا يتألمون. ومن خلال مثل هؤلاء كان لا بد من تغيير، من ثورة علاجية، ومن النظر إلى المريض كمريض لا كزبون والإصغاء جيداً إلى طبيعة ألمه وإلى (الآه) التي تصدر منه».
الجراح الفيلسوف
الجراح يفترض أن يكون فيلسوفاً وحكيماً لا مجرد جراح في يده مشرط وفي قلبه فراغ. هذا هو الطب الحديث الذي يُعلّمه عقيص في الجامعة ويمارسه في الطب الجراحي.
يفترض بكل طبيب أن يعمل على توجيه المريض الذي يأتي إليه ليُعالج ألمه. المريض يفشل أحياناً في اكتشاف أسباب آلام الظهر المبرحة التي يشعر بها، لذا من واجب الطبيب الحكيم أن يُصغي إليه، وفي حال لم يقتنع تماماً بسبب المرض وأيقن أن البروتوكول العلاجي المعتمد لن يؤثر إيجاباً في المريض إذا خضع له، عليه أن يوجهه إلى لجان كما اللجنة التي شكلها عقيص في «بلفو» للأوجاع المزمنة في الظهر والرقبة، في سبيل أن يُصغي طبيب المفاصل والأعصاب والعظام والطبيب النفسي والمعالج الفيزيائي والاختصاصي الاجتماعي إلى المريض قبيل إخضاعه إلى أي بروتوكول جراحي علاجي متسرع. والتشخيص لا يكون، في الطب المعاصر، إلا من وجهة نظر فريق طبي متكامل.
نعيش في زمن يخال فيه كثيرون أن آلام الظهر مشكلة عامة لا بد من مواجهتها في عمر معين وظروف معينة، وهذا خطأ كبير يقع فيه البعض. وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل يمكن أن يعيش الإنسان إذا فهم نفسه من دون آلام الظهر؟ وهل ضروري وقوع الإنسان تحت تأثير آلام الظهر في عمر معيّن؟
تليين المفاصل والعضلات
يحتاج كل إنسان إلى ممارسة تمارين معينة إذا أراد تجنب آلام الظهر. فالإنسان الذي يجلس طوال النهار على كرسيه، في مكتبه، وأمام التلفزيون ليلاً، سيعاني، في مرحلة ما من حياته حتماً، آلام الظهر؛ لأن العضلات بحاجة إلى أن تنمو، والمفاصل تحتاج إلى أن تلين. لذا الرياضة لا بد منها، والسباحة أفضلها، لأن الإنسان لا يضطر فيها إلى الوقوف على قدميه ولا يضغط على ظهره بل ينجح في تحريك كل عضلاته، حتى عضلات الخد، من دون أي ضغط مباشر على العظام.
نصائح جراح الأعصاب والدماغ واضحة: ارموا الهموم، أبعدوها ولو قليلاً، والجؤوا إلى الطبيعة والكروم والورود. انظروا بحب وتأنٍ إليها. وجربوا الابتعاد عن التوتر والضغوط.
تُعتمد هذه النقاط والخطوات السالفة حالياً في الطب المعاصر من أطباء كثيرين. وبات لزاماً على الطب الاقتران بالفلسفة أثناء التشخيص، وبدأت الجامعات تُلقن طلاب الطب مادة تجعلهم يُدركون مسار التشخيص الصحيح حتى ولو أصبحوا جراحين، صيتهم الحسن في العالم، ويُصنفون «بارعين». المطلوب اليوم في الطب التشخيصي العلاجي أن يصير الطبيب حكيماً لا أن يُصنف فقط بارعاً. فالجراحة الناجحة وحدها قد لا تكفي إذا لم ينظف المريض أعماقه من ثقل الأفكار والتوجسات السوداء. وهذا دور طبيبه المعالج قبل أن يُقرر بحكم متسرع إجراء جراحة عامة.
التفتيش عن الحقائق
يفترض التفتيش عن الحقائق داخل المريض الذي يعاني آلاماً مبرحة في الظهر والعنق، للتأكد أن آلامه ليست ناتجة عن «ضغوط» وكآبة وخوف وظنون سوداء. وهنا يهم أن تعرفوا أن المرضى الذين يتعالجون على أيدي طبيبات، يعيشون أفضل ونوعية حياتهم تُصبح أفضل وإمكانية عودتهم إلى المستشفى تضمحل. وهذه إشارة واضحة إلى أن المريض يحتاج مع العلاج إلى قلب كبير وأذن تُصغي. وهاتان سمتان تنتشران بين النساء أكثر من الرجال.
هناك من يعتبرون أن مثل هذا الكلام مبالغ فيه، لكن الطب المعاصر يصرّ على نشره، وفي هذا الإطار يقول جراح الأعصاب والدماغ الدكتور نبيل عقيص، الذي انتقل من الطب التقليدي إلى الطب المعاصر: «تدفع الهرمونات والجهاز العصبي داخل الإنسان إما إلى الهروب وإما إلى المواجهة، ومن يخاف ويحاول الهروب ظناً منه أنه في خطر، وهو خطر وهمي، يبرر خوفه بأشياء غير حقيقية، بآلام يعانيها. وهذه الآلام علاجها ليس بالعمل الجراحي بل بالتفتيش داخل الإنسان وهذا ما لا يفعله كثير من الجراحين. هذا عمل يفترض أن يكون جماعياً». يبقى أن تعرفوا أن آلام الظهر والعنق بحسب الطب الجراحي المعاصر بات يُصنف على قاعدة «ربعها (ختيرة) وثلاثة أرباعها قهر».. ولكم الاختيار.