للحزن جرأة عجيبة، رغم أنه حالة إنسانية بالعموم، والإنسان تحديداً يتجرأ عليه الحزن في شتى الصور، حتى أصبح الحزن لديه حالة حاضرة، في كل المستويات الاجتماعية، حالة عامة عند الجميع بتفاوت مستوياتها.
إن جرأة الحزن تكمن في أنه لا يميّز لمن يأتي ولمن لا يأتي، وأنه يحمل القدر نفسه من السوداوية، ولكن تعامل البشر معه يختلف، فمنهم من يتجاوزه سريعاً، وهي فئة واعية بالحياة، ومنهم من ينهار ويصبح الحزن علامة فارقة عليه.
والحزن كما علمنا ليس طارئاً على البشر، فمنذ خلق الله البشر خلق الحزن والفرح، وخلق جميع المشاعر الإنسانية، فلم يستثنِ الحزن أحداً، فسيد الخلق سيدنا محمد بن عبد الله رسول الله قد حزن كثيراً، ومن أشهر أحزانه حزنه على موت ابنه إبراهيم، حين قال قولته (إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ).
وحين نقول إن الرسول الكريم لم يسلم من جرأة الحزن عليه، فإننا نذكر الحزن الكبير في القرآن، حين حزن سيدنا يعقوب على فقد ابنه يوسف، حتى ابيضّت عيناه من الحزن، وما خلق الله الدمع إلا ليطفئ حرارة الحزن، فأجمل الأحزان ما يهدأ بالدمع، وما يتجنب السكن في القلب فيصبح حزناً دائماً.
وقس على ذلك فالحزن حدث حاضر في حياة العشاق، ورغم ما وصل إلينا من فرحهم بالقصائد والقصص، إلا أن الحزن كان حاضراً في قصص العشاق، وما خلدت الكثير من القصائد إلا مما زرعه الحزن فيهم، ومما أعرف أن الشاعر يكتب بالحزن أكثر مما يكتب بالفرح، ويكتب بالفراق أكثر مما يكتب باللقاء.
للحزن جرأته إذاً على الملك والفقير وعلى الغني والمسكين، وعلى الموظف والعاطل عن العمل، والصغير والكبير، هو الحالة الإنسانية التي تمثل العدالة بين البشر، بخلاف الفرح الذي ليست لديه الجرأة، فالكثير من الناس لم يعرفوا الفرح الحقيقي في حياتهم، وكأن الحزن قد طوّقهم وحال بينهم وبين الفرح.
وأسوأ حالات الحزن تلك التي تأتيك خلال فرحك، فقد يعيش أحدنا فرحاً جميلاً، زارعاً الابتسامة في وجهه، وفجأة يهجم عليه الحزن بكل جرأة، فيحول الفرح إلى حزن، وأذكر هنا قصيدة «فلنعش» لـ«إليا أبو ماضي»، حين كان حاضراً في عرس فمات الشاعر «ندرة حداد» في العرس فجأة فقال:
إن الحزن حالة إنسانية حاضرة، تدعونا إلى أن نُحسّ بغيرنا طالما عرفناها، وتدعونا إلى أن نتعامل معها بتعقل حتى لا تأخذ منا أكثر مما يجب، إن بعض الدمع يرفعها عنا فلا بأس به، وإن كان الصبر هو التطعيم الشافي منه.
شـعر
حزنٌ بعينيّ في عينيك مقتلُهُ
كأنما الصدر غاباتٌ ينجّرها
أخفيه حيناً وحيناً كنتُ أسألهُ
عسفاً ويرفعُ عاليها وينزله
من أين تأتي فقال الناسُ مزرعتي
ما جاور الماءَ إلا كي يعكره
هم علموني الذي قد كنتُ أجهله
إذ جاذب الصبحَ في عنفٍ يظلله
قد ماجَ في الصدرِ بنّاءً ومحتطباً
ممشاه في الجمر لا يمشي على عجلٍ
كأنما الصدر دون الأرض منزله
لا شيء يغريه أو خوفٌ يعجله