هل ما زالت الذاكرة الأسطورية فعالة في الذهن البشري؟!
في ثلاثينات القرن الماضي سافر خالي من عنيزة إلى البحرين، وخياله يدفع به ليعمل في الغوص لصيد اللؤلؤ على شواطئ البحرين الساحرة، ولكنه تعرض لسحرية واقعية حين دخل السينما التي جاءت للتو للبحرين، وتدافع الناس لها برغبات جامحة وأسئلة محيرة عن هذا الشاشة التي تتكلم مثل الراديو، ولكنها أيضاً تقدم أجساداً تتحرك وتطلق النار، وتفعل كل ما تفعله الأجساد لكنها ليست جسداً، ومضى الفيلم يتحرك أمام المشاهدين وهم في دهشة ذهلت لها نفوسهم، وتغير كل شيء حين ظهر ثعبان عملاق يتحرك وسط الشاشة، وظل يمشي ويقترب حتى بدا للجميع أنه سيخرج من الشاشة متجهاً إليهم، وهنا فر الجميع برعب وذهول إلى خارج القاعة، وكان خالي يروي لي حالة الذعر التي حلت به وبالناس معه، وهم يتدافعون نحو الباب المزدحم هرباً من الثعبان، وتحولت المشاهدة من متعة ودهشة إلى رعب لم يتوقعه أحد.
عاد الموروث الأسطوري هنا بما يحمله من مخزون، عن الخوف المغروس في الإنسان من المجهول والغريب.
وظلت الشاشة تحمل أثراً من زمن الأسطورة، فالشاشة تفعل كل ما كانت تفعله الأسطورة في الأزمنة الساحقة، غير أن الشاشة حقيقة وليست خيالاً، ولكنها خيال أخطر من الحقيقة، ورحلة الثقافة البشرية من الشفاهية إلى الكتاب ثم الجريدة والمذياع، وأخيراً الشاشة بصيغها المتعددة التي استقرت في جيب كل كبير وصغير، وصارت جزءاً أساسياً من يومياته ومن معنى حياته، ولهذه التغييرات سيرة ممتدة رسمت علامات الثقافة والزمن، وكما كان الإنسان القديم يخضع لسلطان الأسطورة ويسلم عقله وواقعه لها، فإن الإنسان الحديث ظل كذلك يسلم نفسه طواعية لساعات يمضيها مع الشاشة ويعزل نفسه عن الواقع، وتتولى الشاشة زمام التوجيه حتى ليصبح إدمان الشاشة أحد أهم مظاهر المعاش البشري اليوم، ومهما اشتكى المرء والمرأة من مضار الشاشة، إلا أنهما يقران بشكل قاطع أن لا غناء عن الشاشة، وكأنها عشتار الجديدة التي ترضع أبناءها ولا يستغنون عن حضنها، ولن يبلغوا سن الفطام مع هذه الأسطورية التكنولوجية الساحرة.